3641
0
من وراء التسريب..."أشباح الأرشيف: لعبة الجيوسياسية في زمن ترامب"
.jpeg)
بقلم الحاج بن معمر
التسريب التاريخي لعبد الناصر والقذافي: صفقة ترامب القادمة تُنادي أشباح الماضي.. من يُحرِّك أوراق الأرشيف في لعبة الجيوسياسية؟
في لحظةٍ تُشبه استدعاء الأشباح من قبور التاريخ لخوض معارك الحاضر، انفجرت مفاجأةٌ قلبت موازين السجال السياسي العربي: تسريبٌ صوتي لمحادثة سرية بين جمال عبد الناصر ومعمر القذافي تعود إلى أغسطس 1970، تُنشر فجأةً بعد 55 عامًا، في توقيتٍ بالغ الحساسية قبيل زيارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب المرتقبة للمنطقة.
التسجيل الذي هزَّ مواقع التواصل لم يُكشف فقط عن جدلٍ تاريخي حول الصراع العربي الإسرائيلي، بل فتح الباب أمام أسئلة ملتهبة: لماذا تُطفئ الأجندات السياسية شموع الأرشيف لتُضيء مساراتٍ جديدةً للتفاوض؟
من يربح من إعادة إحياء صوت ناصر وهو ينتقد الحلفاء العرب ويُفضِّل الحلول السلمية؟ وهل هذا التسريب مجرد غيض من فيضٍ مقبلٍ لـ"حرب وثائق" تُعيد كتابة تاريخ المنطقة وفق روايات تخدم الحاضر؟
المحادثة التي دارت في الرابع من أغسطس 1970، أي بعد ثلاث سنوات على هزيمة 1967، تكشف عبد الناصر في لحظة ضعفٍ استراتيجي: مصر تحت ضغط أمريكي دولي لقبول "مبادرة روجرز" لوقف إطلاق النار، بينما الحكومات العربية – كما يصفها في التسريب – تتبنى خطابًا ثوريًا "مُزايدًا" دون تقديم دعمٍ عسكري أو مادي حقيقي. العبارة الأكثر إثارةً التي يُوجهها ناصر للقذافي: "من يريد أن يحارب فليأتِ ويحارب، وحلُّوا عنّا بقى"، تبدو كصرخةٍ من زعيمٍ مثقل بهزيمةٍ عسكرية وخذلانٍ عربي، لكنها في السياق الحالي تُقدَّم كدليلٍ على "واقعيته" التي قد تُفسَّر – بتلاعبٍ مقصود – على أنها تنازلٌ مبكر عن المقاومة.
التسريب لم يأتِ من فراغ. فقناة "ناصر تي في" على يوتيوب، التي تبث المواد الأرشيفية لتراث الزعيم الراحل، تحوَّلت فجأةً إلى منصةٍ لتدمير أسطورته.
رغم نفي مكتبة الإسكندرية – المشرفة على الأرشيف – مسؤوليتها عن التسريب، إلا أن الارتباط الرسمي للقناة بالمشروع أعطى المصداقية اللازمة لتلك الوثيقة، مما يطرح احتمالين: إما اختراقًا مدبرًا للأرشيف، أو توظيفًا مقصودًا من جهاتٍ تريد تحويل التاريخ إلى سلاحٍ في معركة الرأي العام.
الغريب أن التوقيت يتزامن مع تحركاتٍ أمريكية مكثفة لدفع "صفقة سياسية" جديدة في المنطقة، حيث تُشير تقارير إلى أن ترامب يحمل معه مخططًا يُعيد إنتاج "صفقة القرن" بشكلٍ أكثر تطرفًا: تهجيرٌ جزئي لسكان غزة، وتوسيع التطبيع العربي مع إسرائيل، وإعادة تعريف الصراع كقضيةٍ إنسانية بدلًا من كونه نضالًا تحرريًا.
في هذا السياق، يصبح تسريب محادثة ناصر – الذي يُعد أيقونةً للمقاومة – ذا قيمةٍ استراتيجية: تحويل الرمز إلى "دليلٍ تاريخي" على أن الحلول السلمية كانت خيارًا حتى في ذروة المد القومي.
لكن اللعبة لا تقتصر على تبرير التطبيع. فالمستفيدون من هذا التسريب متعددون: أنظمة عربية تبحث عن غطاءٍ لسياساتها الموالية للغرب، قوى دولية تسعى لتفكيك السردية الفلسطينية، وحتى أطراف داخلية مصرية تُحاول تسوية حساباتها مع إرث عبد الناصر.
فتصريح نجله عبد الحكيم بأن التسريب "يُظهر والدي كرجل دولة واقعي" يكشف عن صراعٍ خفي بين تيارين: أحدهما يريد اختزال ناصر في "الزعيم البراغماتي" لتمرير سياسات الحاضر، والآخر يحاول إنقاذ صورته كـ"بطل المقاومة" الذي رفض المهادنة.
التساؤل الأكثر إلحاحًا: هل هذا التسريب هو البداية؟ مع اقتراب زيارة ترامب، يُتوقع أن تشهد الساحة الإعلامية موجةً من "التسريبات المدروسة" التي تستهدف نقاط التحول الحساسة في التاريخ العربي الإسرائيلي. فالأرشيفات السرية لحرب أكتوبر 1973، المفاوضات السرية مع إسرائيل في سبعينيات القرن الماضي، بل وحتى مراسلات القادة العرب خلال حرب الخليج، قد تطفو إلى السطح لتُستخدم كورقة ضغطٍ أو إلهاء.
ففي عصرٍ تُحارب فيه الدول بـ"الذاكرة الرقمية"، يصبح كل تسريبٍ سلاحًا قادرًا على تشكيل الوعي، وتبرير الخيانة، أو حتى صناعة الأبطال الوهميين.الخطر الحقيقي يكمن في أن هذه "الحرب الأرشيفية" لا تُعيد كتابة الماضي فحسب، بل تُشكِّل مستقبل الصراع. فعندما يُصبح ناصر – رمزًا – "شاهدًا" على قبول الحلول السلمية، وعندما تُقدَّم الهزائم العسكرية على أنها "حكمة سياسية"، تُصبح الذاكرة الجماعية أرضيةً خصبةً لتمرير مشاريع الاستسلام.
التسريب الحالي ليس سوى نموذجًا لمستقبلٍ تُحاك فيه الأحداث الكبرى عبر استدعاء شظايا الماضي، حيث التاريخ لا يُكتب من يَوميات الأرشيف، بل من أوراق اللعبة الجيوسياسية.
السؤال الذي يبقى معلقًا مثل سحابة دخان فوق المنطقة: إذا كان هذا التسريب قد نجح في تفجير التناقضات بين الخطاب الثوري والممارسة السياسية، فهل ستكون الذاكرة العربية القادرة على فرز الحقائق التاريخية من الأجندات المعاصرة؟ أم أن عصر "صناعة التاريخ بالنيابة" قد بدأ فعليًا، حيث تُصبح الحروب الإعلامية أكثر فتكًا من المعارك العسكرية؟ الإجابة قد تكمن في تلك الومضات الخاطفة عندما يرفع شابٌ فلسطيني هاتفه ليُوثق انتهاكات الاحتلال، في مواجهة آلة السرديات الكبرى التي تحاول سرقة ذاكرته مرتين: مرةً بالرصاص، ومرةً بالأرشيف.