300

0

سيناء..فزّاعة إسرائيل

بقلم: الحاج بن معمر

في لحظة يغلي فيها الإقليم على وقع الحرب في غزة، واشتداد المواجهة بين الاحتلال الإسرائيلي ومحور المقاومة، عادت سيناء لتتصدر واجهة الأحداث من جديد، ليس باعتبارها مجرد مساحة جغرافية ملتهبة على أطراف مصر الشرقية، وإنما كعنوان لواحدة من أكثر المعارك الإعلامية والاستخباراتية ضبابية التي تدور بين القاهرة وتل أبيب.

فقد تناقلت الصحف العبرية خلال الأسابيع الأخيرة تقارير مثيرة تتحدث عن بناء مصري لمدارج عسكرية ومنشآت سرية في عمق سيناء، وعن احتمال وجود صواريخ تحت الأرض تُخزّن بعيدًا عن الأعين، في ما اعتبرته إسرائيل خرقًا لاتفاقية كامب ديفيد الموقعة عام 1979 والتي حدّت من حجم الوجود العسكري المصري في شبه الجزيرة.

لكن الأخطر أنّ بعض الأقلام الإسرائيلية لم تكتفِ بتوصيف الوضع بأنه مجرد قلق أمني، بل ذهبت إلى حد الحديث عن تهديد وجودي محتمل، لتتحول سيناء فجأة إلى فزاعة إعلامية وسياسية تستعملها حكومة نتنياهو في لعبة معقدة من الضغط على مصر والابتزاز للولايات المتحدة، وصولًا إلى الحديث عن اجتماع قادم بين نتنياهو والرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب واعتباره “اجتماع النهاية والحسم”.

فما حقيقة هذه المزاعم؟ وما خلفياتها؟ وأي أهداف خفية تحركها؟

منذ توقيع كامب ديفيد ظلت سيناء منطقة مراقبة دوليًا، بموجب بروتوكولات واضحة تضع قيودًا على حجم ونوع القوات المصرية فيها، لكن السنوات التي تلت ثورة يناير 2011 وصعود التنظيمات المسلحة في شمال سيناء دفعت القاهرة إلى تعزيز وجودها العسكري تدريجيًا بدعم أمريكي – إسرائيلي غير معلن، بدعوى مكافحة الإرهاب.

يومها لم يعترض أحد، لأن الجيش المصري كان يقوم بمهمة تصب في مصلحة الطرفين: محاربة جماعات ترفع السلاح ضد الدولة المصرية وفي الوقت ذاته تقترب من تهديد الحدود الإسرائيلية.

غير أنّ المشهد تغيّر في السنوات الأخيرة مع توسع مصر في مشاريع بنية تحتية كبرى في سيناء، من شق طرق ومدّ أنفاق إلى إقامة قواعد لوجستية وأمنية.

هذه التحركات قرأتها تل أبيب بعيون مختلفة، وراحت تفتش في كل خطوة عن دليل على أن القاهرة قد تستعد لسيناريو يتجاوز محاربة الإرهاب إلى بناء قوة عسكرية يمكن أن تقلب موازين المنطقة على المدى الطويل.

التقارير الإسرائيلية الأخيرة تحدثت عن مدارج جديدة للطائرات، وعن مبانٍ تحت الأرض يُعتقد أنها مخازن للصواريخ، وهو ما اعتبرته الحكومة الإسرائيلية خرقًا جوهريًا لروح الاتفاقيات الموقعة.

ولأن تل أبيب تدرك حساسية الملف مع القاهرة، لم تذهب مباشرة إلى المواجهة الإعلامية مع مصر، بل اختارت بابًا آخر: استدعاء الولايات المتحدة.

هكذا تسربت معلومات تقول إن نتنياهو طلب من واشنطن التدخل للضغط على مصر ووقف أي بناء عسكري “مشبوه” في سيناء، في خطوة تُظهر كيف تحاول إسرائيل تدويل القضية واستعمالها كورقة ضغط في خضم صراعات أكبر.

فالمسألة ليست مجرد مدرج أو صواريخ، بل صراع روايات ورسائل متبادلة: إسرائيل تريد أن تُظهر للعالم أنها مهددة حتى من جارتها التي وقعت معها معاهدة سلام، ومصر تريد أن تثبت أن سيادتها على كامل ترابها غير قابلة للنقاش، وأن حقها في الدفاع عن أمنها لا يحدده الآخرون.

في هذا السياق، برز حديث عن “استغاثة إسرائيلية” بترامب، وهي صياغة مبالغ فيها لكنها تعكس حاجة حكومة نتنياهو إلى سند سياسي أمريكي يعيد التوازن في علاقاتها مع القاهرة.

فالعلاقة بين مصر وإسرائيل منذ سنوات ليست في أحسن أحوالها، ورغم وجود تعاون أمني صامت في ملفات مثل غزة وتهريب السلاح، إلا أنّ الثقة لم تعد كما كانت في عهد مبارك.

ومع إدارة بايدن، وجدت إسرائيل نفسها أمام شريك أمريكي أكثر ميلًا لموازنة العلاقة مع العرب، فكان طبيعيًا أن تحاول إعادة إحياء خطوطها مع ترامب، الرجل الذي أعطاها القدس والجولان وغطاء سياسيًا لا محدودًا.

الإيحاء بأن اجتماع نتنياهو – ترامب سيكون “اجتماع النهاية والحسم” يدخل في إطار لعبة العلاقات العامة أكثر مما يعكس واقعًا عسكريًا. لكن الرسالة موجهة: تل أبيب تريد القول إنها لن تتردد في الذهاب إلى أقصى مدى إذا شعرت أن مصر تبتعد عن مربع “السلام البارد” إلى مربع “التهديد الكامن”.

من الجانب المصري، لم يصدر رد رسمي مباشر على مزاعم القواعد الصاروخية، لكن مصادر إعلامية قريبة من الدولة سخرت من الطرح الإسرائيلي واعتبرته محاولة للهروب من الفشل في غزة وتصدير أزمة داخلية إلى الخارج.

فمصر التي تكابد أزمات اقتصادية خانقة، وتبحث عن دعم مالي من الخليج والغرب، ليست في وارد فتح جبهة عسكرية مع إسرائيل، لكنها في الوقت ذاته لن تقبل بأن تُختزل سيادتها في اتفاقيات قديمة وقيود لم تعد واقعية.

في نظر القاهرة، ما تقوم به في سيناء هو تأمين حدودها وحماية مشاريعها التنموية الكبرى التي تُنفذ هناك. أما الرواية عن الصواريخ والمهاجمة الوشيكة فليست سوى سيناريوهات إسرائيلية مضخمة.

لكن لماذا الآن؟

ولماذا هذا التركيز الإسرائيلي المفاجئ على سيناء؟

الإجابة تكمن في تقاطع عدة عناصر: أولًا، فشل إسرائيل في تحقيق أهدافها في غزة بعد أشهر من الحرب، ما دفعها إلى البحث عن أعداء خارجيين لصرف الأنظار.

ثانيًا، التوتر المتصاعد في البحر الأحمر على خلفية الصراع مع الحوثيين، حيث تلعب مصر دورًا استراتيجيًا في الممرات البحرية.

ثالثًا، الخوف الإسرائيلي من أي تقارب مصري – إيراني أو حتى مصري – روسي في ظل التحولات الدولية، وهو ما قد يُترجم إلى إعادة رسم خرائط النفوذ في المنطقة.

رابعًا، محاولة نتنياهو استثمار أي ورقة داخلية أو خارجية لتأجيل سقوط حكومته المترنحة تحت ضغط الاحتجاجات والانقسامات.

كل هذه العوامل جعلت من سيناء مادة مثالية لتضخيم المخاوف وإشعال الجدل. فالمكان له رمزية تاريخية وعسكرية، والاتفاقيات التي تحكمه معروفة عالميًا، وأي خرق مزعوم يمكن أن يُصوَّر على أنه تهديد وجودي لإسرائيل.

وهنا يبرز دور الإعلام العبري الذي قدّم رواية متخمة بالتلميحات: صور أقمار صناعية لمبانٍ غامضة، مصادر استخباراتية مجهولة، وتحليلات تتحدث عن سيناريوهات الحرب المقبلة.

لكن ما غاب عن هذه الرواية أن إسرائيل نفسها تعلم أن مصر ليست بصدد مواجهة عسكرية معها، وأن أقصى ما تفعله القاهرة هو تعزيز دفاعاتها وتأمين عمقها الاستراتيجي.

وإذا حاولنا قراءة ما وراء السطور، سنجد أن تل أبيب لا تريد حربًا مع مصر، لكنها تريد الاحتفاظ بخط رجعة في حال تغيرت موازين القوى. لذلك فإن اللعب بورقة سيناء ليس إلا تحذيرًا استباقيًا ورسالة إلى القاهرة بأن إسرائيل تراقب كل شيء.

وفي المقابل، فإن مصر بدورها ترد بزيادة حضورها العسكري على الحدود، لتقول إن سيادتها فوق كل اتفاق، وأن زمن الإملاءات انتهى.

هذا التلاعب المتبادل بالروايات يخلق أجواء من التوتر المدروس، أشبه برقصة على الحافة: لا حرب مباشرة، ولا ثقة كاملة.

أما عن اجتماع نتنياهو وترامب نهاية الشهر، فمن الخطأ تصديقه كاجتماع “النهاية والحسم”. صحيح أن الرجلين يجيدان صناعة العناوين الصاخبة، لكن الواقع أعقد من ذلك.

فالولايات المتحدة، حتى في عهد ترامب، لن تدفع بمصر وإسرائيل إلى مواجهة مباشرة، بل ستبحث عن تفاهمات تضمن استمرار المعاهدة وتحفظ مصالحها في قناة السويس والبحر الأحمر.

كل ما في الأمر أن نتنياهو يحتاج إلى صورة سياسية قوية، وترامب يحتاج إلى أوراق انتخابية في حملته المقبلة، وملف سيناء يوفر لهما معًا فرصة للعب على وتر الخوف الأمني.

هكذا يتضح أنّ ما يُسمى “استغاثة إسرائيلية” ليس سوى فصل جديد من مسرحية ممتدة عنوانها: كيف تبرر إسرائيل فشلها أمام الداخل والخارج عبر صناعة أعداء وهميين؟

لكن في العمق، تبقى سيناء بالنسبة للقاهرة أرضًا مقدسة لا تقبل المساومة، وبالنسبة لتل أبيب فزاعة مثالية لتحريك مشاعر الرأي العام وإبقاء الولايات المتحدة إلى جانبها.

وبين هذا وذاك، يظل الشعب المصري متمسكًا بأن سيادة بلاده لا يقررها سوى المصريون، بينما يظل الاحتلال غارقًا في هواجسه التي لا تنتهي.

 

شارك رأيك

التعليقات

لا تعليقات حتى الآن.

رأيك يهمنا. شارك أفكارك معنا.

barakanews

اقرأ المقالات البارزة من بريدك الإلكتروني مباشرةً


للتواصل معنا:


حقوق النشر 2025.جميع الحقوق محفوظة لصحيفة بركة نيوز.

تصميم وتطويرForTera Services

barakanews

اقرأ المقالات البارزة من بريدك الإلكتروني مباشرةً


للتواصل معنا:


حقوق النشر 2025.جميع الحقوق محفوظة لصحيفة بركة نيوز.

تصميم وتطويرForTera Services