في لحظة لا تشبه سواها، وثّقت عدسات الهواتف في القدس المحتلة مرور صواريخ إيرانية فوق المسجد الأقصى، في مشهد خاطف اختصر قرنًا من الصراع في رمزية بصرية واحدة ، الأقصى في الخلفية، والصواريخ تمرّ فوقه نحو عمق الكيان الصهيوني، دون أن تعترضها قبة حديدية ولا وهم دفاعات "المناعة القومية" التي طالما تباهى بها العدو.
لم يكن هذا المشهد عابرًا، في ليلة فتحت إيران جبهة النار من مسافة آلاف الكيلومترات، وأمطرت أربع مناطق استراتيجية في قلب الكيان الصهيوني بأكثر من 40 صاروخًا، بحسب رواية إعلام العدو نفسه.
تل أبيب، حيفا، الجليل، ومنطقة المركز ، مدن سبق أن وصفت بأنها "غير قابلة للإختراق" أصبحت فجأة في مرمى نيران دقيقة، بصواريخ "عماد"، و"قادر"، و"خيبر شكن".
رمزية العبور فوق القدس
أن تمرّ صواريخ إيران فوق القدس وتُوثّق وهي تعبر سماء الأقصى ليس مجرد مشهد حربي، إنها لحظة رمزية مركّبة تحمل ثلاث رسائل متداخلة:
رسالة سياسية مفادها أن طهران لم تعد ترى القدس "خطًا أحمر" تتجنبه خشية الاستفزاز، بل باتت تستخدمه منصة لتمرير رمزية حضورها في قلب المعادلة الفلسطينية.
ورسالة عسكرية مفادها أن الصواريخ وصلت إلى أهدافها دون أن تعترضها المنظومات الدفاعية الإسرائيلية، رغم تحصين تلك المناطق بكل ما يمكن أن يقدمه الحليف الأميركي من دعم لوجستي وتقني، هنا يظهر الخلل الدفاعي، وربما الاستخباراتي، بوضوح.
إلى جانب الرسالة الأهم وهي شعبية ونفسية، فمرور الصواريخ فوق "قِبلة الأمة" يحمل دلالة عاطفية موجهة إلى الشعوب الإسلامية، فالصورة تخاطب الوجدان الجمعي وتقدّم إيران كقوة قادرة على الفعل والتأثير حتى في أكثر الأماكن حساسية.
فشل منظومات "الردع" الإسرائيلية
اللافت في هذه الضربة الإيرانية ليس فقط دقة الإصابة، وإنما غياب مشاهد الإعتراض الجوي، وهو ما يطرح تساؤلات خطيرة عن جاهزية منظومة الدفاع الصهيونية.
فقد صمّت الآذان لسنوات بقصة "القبة الحديدية" و"مقلاع داوود"، في مقابل صمت ميداني تام ليلة الهجوم.
هذا الفشل يُنذر بما هو أعمق من مجرّد خلل تقني، انهيار في الثقة بمنظومات الردع، وتراجع في هيبة الجيش الإسرائيلي داخليًا وخارجيًا، وخاصة أمام جمهور مستوطن يعيش منذ عقود على وهم الأمان الصناعي المدعوم أميركيًا.
الجبهة الداخلية... تنشق
الهجوم الإيراني لم يكن رمزيًا فقط، بل كان مدمرًا ماديًا، الصور والفيديوهات، التي أفلتت من رقابة الرقيب العسكري الصهيوني، أظهرت دمارًا واسعًا في تل أبيب وبات يام، وسط تعتيم شديد ومحاولات طمس للمشاهد عبر حجب التغطية المباشرة.
وفق القناة 12 العبرية، فقد تضرر 61 مبنى في بات يام وحدها، 10 منها تستوجب الهدم الكلي.
هذا الرقم، وإن بدا "مضبوطًا" إعلاميًا، لا يعكس بالضرورة الحجم الحقيقي للكارثة، فقد شوهدت أبراج سكنية مدمّرة، وعائلات عالقة تحت الأنقاض، فيما تعاني فرق الإنقاذ من تأخر في الاستجابة بسبب تشديد الطوق الأمني، ما يرجّح حصول انهيار حقيقي في إدارة الأزمات داخل الجبهة الداخلية.
إن صعوبة الاستجابة لمثل هذا النوع من القصف الواسع تشير إلى نقطة ضعف جوهرية، الجبهة الداخلية الصهيونية، ورغم كل التحديثات والتجهيزات، لا تزال هشّة في مواجهة حرب استنزاف بالصواريخ الدقيقة والضربات المتزامنة.
إيران تغيّر قواعد الاشتباك
إذا كانت المواجهات السابقة مع فصائل المقاومة في غزة أو لبنان تحمل طابع "الردع الموضعي"، فإن دخول إيران المباشر والعلني على خط القصف، وباستخدام صواريخ بعيدة المدى وعالية الدقة، ينقل المنطقة إلى مربع آخر من التصعيد، حرب إقليمية مفتوحة بقواعد اشتباك جديدة.
لم تعد طهران تكتفي بالإنكار أو الاعتماد على الوكلاء، بل نفذت ردًا مباشرًا، من أراضيها، إلى عمق "الكيان"، كإعلان صريح بأن زمن الخطوط الحمراء انتهى، أو على الأقل، تغيرت خرائطه.
قراءة في التوقيت والدلالات
جاء الهجوم الإيراني مباشرة بعد ساعات قليلة من هجوم إسرائيلي على مواقع حساسة داخل إيران، بعضها مرتبط ببرامجها النووية والصاروخية، ردّت إيران، ولكن بجرأة تفوق الهجوم الأصلي، وفي توقيت مثالي، تعاني فيه إسرائيل من ضغوط سياسية داخلية غير مسبوقة، وموجات إحتجاج ورفض دولي لجرائمها في غزة.
ففي لحظة تتراجع فيها شرعية "إسرائيل" دوليًا، وتتصاعد فيها عزلة تل أبيب في المحافل الأممية، يأتي الرد الإيراني ليزيد الطين بلّة، ويقدّم رسالة لأعداء إسرائيل من محور المقاومة مفادها، الهجوم ممكن، الرد مؤلم، والحرب لم تعد "ساحة نظرية".
مرور الصواريخ الإيرانية فوق المسجد الأقصى لم يكن مجرد مشهد درامي، بل كان إعلانًا رسميًا بدخول مرحلة جديدة من الصراع، حيث لم تعد إيران ترد من وراء الستار، ولم تعد إسرائيل تملك ترف الردع من دون تكلفة.
إنها لحظة تستدعي قراءة بعيون استراتيجية لا عاطفية، لأنها تشير إلى تحوّل في موازين الردع، وتغيّر جذري في المشهد الإقليمي، وما كان يُستبعد بالأمس، أصبح يُوثّق اليوم بعدسة هاتف في سماء القدس.