280
0
"سفينة مادلين: شراع الأحرار في زمن الخذلان"

بقلم: الحاج بن معمر
في عرض البحر، بعيدًا عن حسابات الزعماء وموازين المصالح الدولية الباردة، تتقدم سفينة صغيرة تحمل اسمًا بسيطًا: "مادلين". لا تحمل هذه السفينة أسلحة، ولا تملك صواريخ ولا غطاءً جويًا، ولا تحتمي بتحالفات دولية، لكنها تحمل أعظم ما يمكن أن يحمله إنسان حر: ضميرًا حيًا وقلبًا لا يقبل أن يرى شعبًا يُباد بصمت.
على متن هذه السفينة، تجتمع جنسيات متعددة، رجال ونساء من قارات مختلفة، لا يجمعهم دين واحد ولا لغة واحدة، بل توحدهم قضية عادلة وصرخة ضمير، ووجع إنساني اسمه غزة.
هؤلاء هم الأحرار الحقيقيون، الذين خلعوا عنهم ترف التنظير، ونزلوا إلى الميدان بالفعل، وهم يعلمون تمامًا أن طريقهم محفوف بالمخاطر، وأنهم قد لا يصلون، وقد يعتقلون، أو يُمنعون، أو يُتهمون بما ليس فيهم، لكنهم أبحروا، لأنهم لا يحتملون الصمت أكثر.
مادلين ليست مجرد سفينة، إنها رسالة حية، صفعة في وجه عالم جبان، وخطاب مكشوف لأولئك الذين يكتفون بإحصاء الشهداء وإلقاء الخطب الجوفاء. إنها دليل حي على أن الكرامة لا تُقاس بحجم الدولة، ولا بعدد الجيوش، بل بإرادة الإنسان حين يقرر أن لا يصمت. في المقابل، تبدو عواصم العرب، تلك التي يتفاخر حكامها بالبيانات الرسمية والمواقف "المتزنة"، كأنها بلا روح، بلا نبض، بلا ذاكرة. منذ عام ونصف، يُذبح الشعب الفلسطيني في غزة على مرأى ومسمع من الجميع، يُجوع، ويُقصف، ويُهجر، وتُباد عائلات بأكملها، ويُدفن الأطفال تحت الركام، لكن الزعامات الكرتونية تكتفي بالتحذير من "التصعيد" وتناشد "ضبط النفس"، وكأن الضحية هي من تقتل نفسها، وكأن المعتدي يحتاج إلى تذكير بإنسانيته.
غزة لا تنتظر من هؤلاء شيئًا. غزة تعرف خذلانهم، وتحفظ صمتهم، وتُسجل في ذاكرة الأجيال وجوههم الباردة. لكن ما لا يُنسى أيضًا هو وجوه الأحرار الذين يشقون الموج اليوم بسفينة مادلين.
هؤلاء الذين لم تفسدهم المصالح، ولم يخنقهم الخوف، ولم يستسلموا للعجز. هم الذين سيُكتب عنهم ذات يوم: إنهم الذين حاولوا، وواجهوا، وصرخوا في وجه العالم: "كفى!". كل التقدير والاحترام لهؤلاء، فكل قطرة ماء تلامس جسد مادلين، هي شرف يُغسل به عار المتخاذلين.
وكل وجه على متنها، هو صفعة في وجه الجبن، ودرس في أن الحرية لا تُهدى، بل تُنتزع. أما الخزي والعار، فمحفوظ لكل من خذل غزة، لكل من نظر إلى الدم المسفوك وواصل الابتسام أمام الكاميرات، لكل من غاب حين نادى الواجب، ولكل من ظن أن الدم الفلسطيني رخيص. مادلين تبحر، ومعها كرامة أمة.