354
2
رحل رجــل القــرآن والجهادين

بقلم أستاذنا الدكتور الطيب برغوث
(كلمة بمناسبة وفاة عمه وابن عمه )
تلقيت يوم الثلاثاء 28 رجب 1446هـ الموافق لـ 28 جانفي 2025 ، نبأ وفاة عمي محمود برغوث، وحمزة برغوث بن حليم برغوث، فإنا لله وإنا إليه راجعون، ولله سبحانه وتعالى ما أعطى وله ما أخذ، ولا نقول إلا خيرا.
فاللهم اغفر لهما وتغمدهما برحمتك الواسعة وأسكنهما فسيح جناتك مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا، وألهمنا وألهم كل ذويهما الصبر والسلوان.
وعمي محمود من الرعيل الأول من جيل الثورة الذهبي، وكان لي شرف التتلمذ عليه في الثورة، حيث كان رحمه الله معلم قرآن في قرية شعبة الزيتون، فتعلمت عليه قسطا وافرا من القرآن الكريم، ومن الأناشيد الوطنية الثورية التي كنا نحفظها وننشدها باستمرار، وخاصة في المراحل الأخيرة الحاسمة من الثورة، التي كان رحمه الله يرتدي فيها لباسا عسكريا، ويدربنا على " النظام المنظم " كما يقولون في التدريبات العسكرية الأولية، مع إنشاد هذه الأناشيد التي تجعلنا نعيش في عمق عالم الثورة، ونشعر بأننا قريبا سنكون جنودا للثورة في الجبال.
و بالإضافة إلى دوره الرئيسي في تعليم القرآن، وإعداد الأجيال إعدادا روحيا ونفسيا وأخلاقيا ثوريا حازما، فقد كان رحمه الله أمين سر والدي المرحوم لمبارك برغوث وكاتبه العام وساعده الأيمن في حله وترحاله،وكان والدي رحمه الله أحد الأقطاب الثلاثة الأوائل الذين تحملوا عبأ الثورة في شعبة الزيتون مبكرا جدا، وهم : المرحوم الشهيد دحمان مصباح الذي خلفه ابنه الجودي مصباح بعد استشهاد والده مبكرا، والمرحوم عيسى مداني، ووالدي برغوث لمبارك.
كما كان عمي محمود عضوا في المجلس البلدي لبلدية الرحبات مدة طويلة، وإمام جمعة متطوع في مسجد شعبة الزيتون، رغم أنه لم يدرس العلوم الشرعية على أي شيخ، وإنما اكتسب ما استطاع من الثقافة الإسلامية باجتهاده العصامي الخاص.
وأتذكر وأنا صغير ربما في سن الرابعة من عمري أنه كان مصليا لا يترك الصلاة أبدا، وتاليا للقرآن في كل أحواله، حتى يحافظ على حفظه. وعمل بالقرب من مسكننا الجماعي" سدارة " يرتقيها للآذان وخاصة في شهر رمضان حيث يعتبر هو مرجع الناس في قريتنا في تحديد أول الصيام وأول أيام عيد الفطر، وفي الفتاوى الشرعية.
كما أتذكر وأنا صغير ربما في سن الثامنة أو التاسعة من عمري، كيف أمسك به الجنود الفرنسيون وضربوه ضربا مبرحا، بحثا عن والدي رحمه الله، وعلقوا على ظهره جهاز اتصال ضخم كان كثيرا ما يوشك أن يسقطه أرضا على ظهره، وخاصة عند صعود بعض المناطق المرتفعة، والجنود يدفعونه بأيديهم وأسلحتهم إلى الأمام ويشتمونه ويهددونه، ونحن نتفرج عليهم خلسة لأنهم كان يمرون بجنب بيوتنا بحثا عن الوالد رحمه الله، الذي كان عمي محمود وعمي الدوادي قد حفرا له " كازمة " في إسطبل الحيوانات يختبئ فيها عند الخطر، ولا يعلم بها أحد إلا جدتي الزهراء رحمة الله عليها، وعمي محمود وعمي الدوادي.
كما رسخ في ذهني جهاده الفلاحي منذ صغره، حيث كان يسهر على مزرعة فلاحية متنوعة كنا نعتمد عليها في خضرواتنا وفواكهنا قبل الثورة و أثناءها، ولم يترك هذا الجهاد بعد الثورة بل حول هو وعمي الدوادي وأبناءهما المنطقة المحيطة بمساكنهم في شعبة الزيتون الجرداء إلى مزرعة كبيرة للزيتون والفواكه والخضروات حتى وافاه الأجل رحمه الله وهو في الخامسة والتسعين من عمر، وقد تعمدت نشر صورته هو وعمي الدوادي وهما بملابس الفلاحة يتوسطهما أخي العزيز الدكتور عبد الحميد حفظه الله، وهي صورة حديثة جدا، زادتني إكبارا لهما ولجهادهما الممتد عبر عمرهما الطويل، وكأنهما يتمثلان قول رسول الله عليه الصلاة والسلام ( إن قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة فليغرسها )، بالرغم من أنهما كان بإمكانهما أن يعيشا مرتاحين تماما، فأولادهما كلهم متعلمون وفي وظائف هامة ومرموقة، ولكنهما فضلا حياة الجهاد الاجتماعي حتى آخر رمق من حيتهما، وهذا ما يرفع من شأنهما عند الله تعالى وعند كل من يعرفهما إن شاء الله تعالى.
إن هذه الصورة عندي من أجمل وأحسن الصور التي وصلتني عن عمي محمود رحمه الله، وإنني فخور بها وبدلالاتها الرمزية التربوية جدا، لذلك فضلتها على ما عداها من الصور الكثيرة التي رأيتها له رحمه الله.
لقد كان عمي محمود رحمه الله يتمتع بوعي وسلوك وأخلاق وعلاقات عالية المستوى، وبذاكرة حديدية يتذكر بها كل شيء بالتفصيل وهو في العقد التاسع من عمره، لذلك أعتبر نفسي قد فقدت بوفاته مصدرا أساسيا من المصادر التي كنت أعول عليها في كتابة بعض الصفحات من " مذكرات جيل " التي كنت أنوي الانطلاق فيها لولا المرض الصعب الذي ألمَّ بي، وعطل هذا المشروع.
فاللهم ارحمه وارحم أخي حمزة رحمة واسعة، وألهم أبنائهم وأحفادهم وعمي الدوادي وكل عائلتهم وعائلة آل برغوث الكبيرة، الصبر والسلوان، ولا تحرمنا اللهم أجرهما ولا تفتنا بعدهما، والله أكبر ولله الحمد على كل حال.