522
1
رحلة في قلب التاريخ… ضيوف مهرجان إيمدغاسن السينمائي يكتشفون مدينة تيمقاد الأثرية

لم يكن البرنامج الثقافي والفني لمهرجان إيمدغاسن السينمائي الدولي مقتصراً على العروض السينمائية وورشات التكوين فحسب، بل امتد ليحمل ضيوفه في رحلة إستثنائية نحو مدينة تيمقاد الأثرية، حيث تتناغم روعة الفن السابع مع عبق التاريخ الروماني الضارب في عمق الحضارة.
ريبورتاج: ضياء الدين سعداوي
إنها لحظة إلتقاء الماضي بالحاضر والسينما بالآثار، لتؤكد أن الجزائر ليست فقط أرض مهرجانات بل أيضاً موطن حضارات كبرى تركت بصمتها على صفحات الإنسانية.
تيمقاد مدينة منسية تستيقظ مع السينما
على مسافة قصيرة من مدينة باتنة، تنتصب تيمقاد كجوهرة أثرية تروي للزائرين قصة مدينة شيدت في القرن الأول الميلادي على يد الإمبراطور الروماني تراجان، لتكون مستعمرة عسكرية لجنوده المتقاعدين وحصناً متقدماً يصد الغزوات ويؤمن طرق التجارة، حملت المدينة في البداية إسم "تاموقادي" قبل أن تتحول لاحقاً إلى "تيمقاد"، وهو الإسم الذي ارتبط في المخيال الجمعي بالعيش الرغيد والرخاء.
لمدة قرون طويلة دفنت الرمال أسرار هذه المدينة تحت الصحراء إلى أن كشفها المستكشفون الفرنسيون في القرن الثامن عشر سنة 1765. ومنذ ذلك الحين لم يتوقف سحرها عن جذب الباحثين والسياح قبل أن تدرج سنة 1982 ضمن قائمة التراث العالمي لليونسكو إعترافاً بقيمتها الإستثنائية.
تبلغ مساحة الموقع 50 هكتاراً وتضم شوارع مرصوفة على الطراز الروماني، مسارح، معابد، حمامات عمومية، ومكتبة تعد من أقدم المكتبات في العالم. من هنا يصبح التجول بين أنقاض تيمقاد رحلة في الزمن، حيث يلتقي الحاضر بالماضي في مشهد لا يقل إثارة عن أي عمل سينمائي.
ضيوف المهرجان حين ينبض التاريخ بالإلهام
الرحلة السياحية التي نظمتها محافظة مهرجان إيمدغاسن على شرف ضيوفها لم تكن مجرد فسحة سياحية عابرة، بل تجربة ملهمة لعدد من الفنانين والكتاب الذين وجدوا في تيمقاد مادة أولية لإبداع مستقبلي.
السيناريست والمخرجة الجزائرية إيمان عيادي لم تخف انبهارها بالمدينة قائلة: "أول مرة أزور تيمقاد وقد أعجبتني كثيراً، أفكر في كتابة سيناريو وإنجاز أفلام في هذا الصرح التاريخي الشامخ." كلماتها جسدت كيف يمكن للمكان أن يتحول إلى مصدر إلهام سينمائي، حيث تلتقي الأحجار العتيقة مع خيال المبدعين.
أما الممثلة السورية روعة ياسين فقد بدت مأخوذة بجمال الموقع، إذ قالت في تصريحها: "الأجواء جميلة ورائعة ، صراحة لم أكن أعرف عن تاريخ الجزائر وعراقتها بهذا العمق، ولم أتوقع أن أشاهد كل هذه الحضارات في المدينة الأثرية وفي متحفها، إنها تجربة لا تنسى."
الفنانة الجزائرية عايدة عبابسة من جهتها عبرت عن امتنانها للقائمين على المهرجان بقولها: "الرحلة تعكس المجهودات الكبيرة لمنظمي المهرجان، ليس فقط في الإهتمام بضيوفهم، بل أيضاً في تسويق الوجهات السياحية للأوراس,, إنها طريقة حضارية للتعريف بجمال الجزائر من خلال السينما."
المتحف فسيفساء تروي حكاية العصور
لم تتوقف الرحلة عند أسوار المدينة بل امتدت إلى متحف تيمقاد الأثري، المتواجد بالقرب من مدخل المدينة الأثرية ، والذي يعد جوهرة قائمة بذاتها، أعيد فتحه سنة 2018 بعد أن ظل مغلقاً لأكثر من ربع قرن، وهو اليوم واحد من أغنى المتاحف في الجزائر بمجموعة فسيفسائية نادرة تغطي مساحة تفوق 1121 متراً مربعاً.
يضم المتحف 86 لوحة فسيفساء، منها 84 معروضة داخل قاعاته الثلاث ،وتتميز هذه اللوحات بخلفياتها السوداء الفريدة، ما دفع الباحثين إلى الإعتقاد بوجود مدرسة فسيفسائية محلية تميزت عن غيرها في شمال إفريقيا. معظمها يزخر بالزخارف النباتية والحيوانية والمشاهد الأسطورية، ما يعكس تلاقحاً بين الفن الروماني وروح السكان المحليين.
من أبرز هذه اللوحات "الوحوش البحرية" التي تعود إلى موقع لمباز وتظهر فيها ثلاثة آلهة مائية على ظهور وحوش بحرية، تحف بهم أطفال مجنحة، كما تبرز لوحة "آلهة البحر" بتقنية فنية نادرة تجعل العينين مرسومتين فيها تلاحق الزائر من أي زاوية، وهي تقنية شبهها الخبراء بما نجده في لوحة الموناليزا الشهيرة.
المتحف ليس فقط خزينة فسيفساء، بل يضم أيضاً حديقة أثرية، أعمدة كورنثية، تماثيل نذرية، وتوابيت حجرية، ما يجعله فضاء متكاملاً لفهم حياة الرومان في تاموقادي ومعتقداتهم اليومية.
تيمقاد والسينما لقاء بين صورتين
رحلة ضيوف المهرجان إلى تيمقاد تفتح آفاقاً جديدة للتفكير في العلاقة بين السينما والتراث ، فالمكان بما يحمله من تاريخ ومعمار يمكن أن يتحول إلى فضاء تصوير مثالي لأفلام تاريخية، أو حتى لأعمال معاصرة تستثمر رمزية الأطلال. السينما، بإعتبارها فناً للزمن، تجد في تيمقاد مرآة تعكس جدلية الماضي والحاضر.
من هنا يصبح إختيار محافظة مهرجان إيمدغاسن لتنظيم هذه الزيارة جزءاً من رؤية أشمل، تسعى إلى جعل الثقافة أداة للتنمية السياحية والإقتصادية، وإلى تقديم الجزائر كوجهة تحتضن في آن واحد الإبداع السينمائي والإرث التاريخي.
الأوراس وجهة تتنفس حضارة
الرهان على السياحة الثقافية في الأوراس ليس جديداً، لكن مهرجان إيمدغاسن منحها زخماً إضافياً، فكل ضيف أجنبي أو عربي يعود من تيمقاد يحمل معه صورة مختلفة عن الجزائر، بلد لا تختزل هويته في النفط أو الصحراء، بل يمتد جذوره إلى عمق التاريخ الروماني والبربري والإسلامي.
هذا ما أكده أحد النقاد الحاضرين بقوله: "من يزور تيمقاد لا يعود كما كان ، فالمكان يذكرك بأن الحضارات العظيمة لا تموت، وأن الفن، سواء كان فسيفساء أو سينما، هو لغة خالدة تتجاوز الحدود."
منصة للترويج السياحي والدبلوماسي
بهذه الرحلة يؤكد مهرجان إيمدغاسن أن السينما ليست فقط عروضاً على شاشة، بل أيضاً جسر للتعريف بالموروث المحلي وتسويقه عالمياً، فزيارة ضيوف من دول عربية وأجنبية لتيمقاد توازي في قيمتها حملة دعائية واسعة النطاق، حيث تنتقل صورهم وانطباعاتهم إلى وسائل الإعلام والجمهور العريض في الخارج.
الأمر هنا يتجاوز البعد السياحي ليحمل في طياته بعداً دبلوماسياً ثقافياً يضع الجزائر في قلب الخريطة العالمية ليس فقط كمنتج للسينما، بل أيضاً كحاضنة للحضارات.
حين يلتقي الضوء بالظل
السينما فن الضوء والظل وتيمقاد مدينة جمعت بين النور والظلال عبر قرون من المجد والإنكسار، واليوم يلتقي الإثنان مجدداً في الأوراس حيث يصبح مهرجان إيمدغاسن أكثر من مجرد حدث فني بل رسالة حضارية تقول إن الماضي يمكن أن يكون جسراً للمستقبل.
رحلة ضيوف المهرجان إلى تيمقاد لم تكن مجرد زيارة سياحية، بل فعل ثقافي بإمتياز يعيد قراءة التاريخ بلغة الفن السابع ويؤكد أن الجزائر قادرة على أن تكون قبلة للسينما كما كانت ذات يوم ملتقى للحضارات.