352
0
"ومضة للذاكرة" ...تسرد الحياة إبان ثورة التحرير

"ومضة للذَّاكرة" هو عنوان النص التاسع من نصوص المجموعة وهو نص يجمع بين السرد الجميل لنوستالجيا الحياة إبان ثورة التحرير وسرد جميل لوقائع الوفاء للأم والوطن من خلال أحداث معركة خاضها مجاهدونا البواسل.
حركاتي لعمامرة
وتختم المجموعة بصورة إرتقاء بطل القصة ونيله الشهادة وهو يوصي أصحابه بإكمال الرسالة وتبليغها للأجيال القادمة " ابتسم و تمتم بصوت خافت يكاد يسمع : " إخواني، الجزائر أمانة في أعناقكم لا تيأسوا و جاهدوا في سبيل الله و من أجل الوطن و إنّي لأرى النّصرقريبا،فإن شهدتم الاستقلال فارفعوا العلم عاليا ودعوا النّشيد يدوِّي في سماء الجزائرواحكوا لأبنائنا ما فعله الرّجال لوطننا"، اضمحلت قواه رفع السبابة و نطق بالشّهادتين، خفت صوته و صورة أمّه بدأت تتلاشى أمام عينيه و صوتها يصل متقطّعا إليه،حُمّل الّشهيد بسواعد المجاهدين،واندفع آخرون لإكمال المهمّة.
أما في نص" المحارب" فإن الكاتبة تبدع في نسج قصة ذلك الملاكم الذي تمسك برباطة جأشه للفوز والإنتصار وهو في النصف الثاني من الكرة الأرضية بينما يؤنسه طيف وجه حبيبته باعثا فيه نفسا جديدا أعطاه قوة لينتصر "يصله صوتها متقطّعا، كأنّه رجع صدى أخرجه من غيبوبته: لا مجال للخوف عندنا.. نحن الأقوى –هكذا حدّثته يوما- كان لا يزال واقعا على الأرض حين لاح وجهها المبتسم من بين الجموع...اقتربت منه، همست له في أذنه كأنّها تخشى أن يسمعها أحد :"كما ينتصر الحب دائما"،تفتّش عن انبثاق النّور في وجهه المتعب تقترب منه أكثر فيستشعر أنفاسها، فقد كانت مصدر قوّته الّذي آمن به دائما،فتح عينه بجهد وصوت الحَكم يسأله إن كان باستطاعته مواصلة المُنازلة أو ينسحب" ولكن ذلك الأمل الذي ظل يراوده طول المنازلة جعل منه بطلا منتصرا كماينتصر الأبطال في المعركة "ابتسم ابتسامةباهتة لشدَّة تعبه فمنافسه كان أقوى منه، ثبت على بُعْد خطوتين منه و سدَّد لكمة قويَّة تراجع خصمه خطوتين ثم سقط فاقدًا الوعي.خرَّ البطل ساجدًا للَّه يشكر فضله ثم رفع علمه عليًّا، لاح وجهها في سماء القاعة مبتسمًا، والهتاف يعلو باسمه فرحًا."
وعند إنتهاء المنازلة تنتهي القصة بنهاية حزينة تتمثل في غياب حبيبته التي كانت طوال المنازلة باعثا للأمل والشجاعة طول الوقت "هاتفها يخبرهابفوزه المُستحَق كما كانت تقول له،لكنَّه أدرك أن الصَّوت مختلف،سأل عنها، صمتت شقيقتها قليلا ثمَّ أجهشت بالبكاء."
وفي النص الحادي عشر من نصوص المجموعة تحت عنوان " مسنجر " وهو عنوان مستمد من الواقع الإفتراضي الذي تمثله وسائط التواصل الاجتماعي في شقيه الظاهر والخفي وتأثيرها على العلائق الإنسانية كالحب والإهتمام بالآخر ليصبح التواصل بين الناس خاضعا للمسات الأصابع في واقع يميزه الجفاف والجفاء بكل برودة حيث تقول بطلة القصة في نهاية هذا النص "وحدك أنت تتجاهل وجودي كضريبة أتوسّدها أمام خسارات عينيك حين يبدأ الحبّ مُتنكرافي طلب صداقة، و ينتهي بالضّغط على الحظر و تنتهي بذلك كلّ البدايات الجميلة."
" أليس الصّبح بقريب" هو عنوان النص الثاني عشر وهو نص قصصي قصير يصب في نفس المنحى الذي إتخذته الكاتبة لمجموعتها القصصية حيث تصف لنا حالة تللك الأم مع صغيرها في غياب رجل البيت وهي التي توهم إبنها ليعيش على أمل الإنتظار"لا تبك يا بنيّ سيعود أبوك من الحرب و ستُعدُّ الولائم، و أعدُّ لك خبزا شهيا"يتوقَّف بكاؤه قليلا: "متى ذلك يا أمّي؟" هكذا وبصورة قاتمة عن ضحايا الحروب الحديثة التي كانت بعض البلدان العربية مسرحا لها ومدى تأثيرها على إستقرار العائلات والأسر إلى أن تضيع العائلات والمجتمعات على أمل إنتظار المجهول: تناثرت صباحات سنين كثيرة،كان يرنو فيها إلى صباح قريب، لم يعد والده، وأمّه مازالت تردّد: " غدا صباحا يعود والدك" " الضَّريبة" هو العنوان الثالث عشر الذي تعرضه الكاتبة حنان بلحرمة ضمن مجموعتها القصصية وهو عنوان لقصة رجل عانى في طفولته من مرارة اليتم والتشرد حيث تاه بين الأخوال والأعمام وتلك المدرسة التي رفضته بالطرد ليحتضنه الشارع بكل تناقضاته فيتحول إلى الإجرام والسرقة "هام على وجهه في الأرض،كثور هائج يسرق و يستقوي على الضِّعاف، لم تشفع توسّلات عجوزة حين أخذ حقيبة يدها و فرَّ في الطرقات، فقلبه الطّيب مات، و مات هو أيضا حين أغلق في وجهه عطف الأخ و حنو الخال و سند العمّ.
" وأخيرا يستفيق ضميره الحي إثر جريمة سرقة محل المجوهرات وجريمة قتل في نفس الوقت ليجد نفسه سجينا، هذا السجن الذي آواه وأعاد لحياته الإستقرار والنجاح في الدراسة "يأتي صوت الحارس غليظا شديدا ينتشله من بئر ذكرياته، ينادي النَّزيل رقم مائة و أحد عشر أنّه صدر أمر بالإعفاء عنك بعد سيرتك الحسنة و متابعتك لدراستك و نجاحك في شهادة الباكالوريا بتقدير جيّد جدًّا، أحزنه إطلاق سراحه هكذا فجأة فقد وجد قبل عشرِ سنوات مأوى بهذا السّجن و قد عامله النّزلاء الجدد بطيبة لم يجدها خارجه" وفي نفس الخضم تبقى الكاتبة تستضيف ضمن مجموعتها القصصية ضحايا المجتمع "المجنون" هو عنوان النص الرابع عشر الذي تتكلم فيه عن مجنون يفيض حكمة في مجتمع غارق في متابعة مباريات كرة القدم في عالم يطمح لإحتلال الكواكب المحيطة بنا " توقَّف أمام المقهى الّتي كانت غارقة في متابعة المباراة، تقدَّم بخطوات حذِرة، كمن يتسلَّل خلسة لسرقة بيت، وقف أمامهم هرول يجري و يصرخ : " اسكتوا اسكتوا كفاكم صراخا بداخلي، أيّها الواقفون في وجه الرّيح كفاكم صراخا".
وتبقى مجتمعاتنا تنظر لهؤلاء نظرة إحتقار وتجاهل دون إنتباه لأقوالهم وأفعالهم وتفكيك رموزها المعقدة لينتهي الأمر برميهم إلى الشارع "لم يحتمل صاحب المقهى كلّ هذا الهراء و دفع بالمجنون خارجا متوعِّدا أنه سيبرحه ضربًا اذا عاد. ابتعد المجنون قليلا ثمَّ صرخ ملأ فيه: "اصمتوا و ستندمون، ستندمون" ثم رشقهم بحجر كسر به زجاج النّافذة و هرب.
ولن تتوقف الكاتبة عن عرضها لشخصيات من مجتمعنا وفي النص الخامس عشر تحت عنوان "العاق" لكن ورغم عقوقه كانت نهايته مضيئة حيث أفاده نصح والده الذي فقد بصره عند صلاة الظهر ليصبح رفيقه الدائم إلى بيت الله "بصلاة الفجر قبَّل يديه و بكى عند قدميه كثيرا، عانقه و أصبح عيناه إلى المسجد." اما في نص "روائحُ المحطَّة" وفي إستعراض جميل وسرد ممتع لشخوصها الذين يحملون أحلامهم السعيدة وهي تسرد لنا محطات ذلك البطل الذي تاهت به السبل من محطة لأخرى "تذكّر مسودّته الّتي تعوَّدت الغربة، و وقع الكلمات كاللّكمات.. و البسمات صفعات تفوح منها رائحة الألم و الآهات، مدوّنة بالأسود لتصنع غربة أخرى تخبئ في طيَّاتها الذّكريات.
لم يشعر و يد غليظة تشدّه على كتفه.. تسأله هويَّته و وجهته .. ارتعشت الأرض تحت قدميه.. تساءل كيف لم يعرفه؟ و هو هويَّته في ملامحه.. في سمرته.. في عينيه..في تضاريس وجه..في فوضى آلامه.. اعتذر للسّائل ..أخرج جوازه المختوم بالأحمر .. ثمَّ همَّ يركب آخر رحلة أوهمته أنّ كلّ الطّرق مؤدية إلى روما."
وفي نهاية المجموعة يأتي نص "رسائل جنديّ" المكون من سبعة مؤثرة رسائل أرسلها الجندي إلى حبيبته التي إبتعد عنها وهو يخوض معركة الدفاع عن الوطن وقد كانت رسائل جد مؤثرة أبدعت الكاتبة في صياغتها وهي تنوب عن ذلك الجندي الذي ظل يحن لأحلى ذكرياته فهو يقول في الرسالة الرابعة : حبيبتي، انتظرتُ كثيرا رسائلك الّتي لم تعد تصلني رغم إلحاحي الكبير، هل تذكرين النَّهر، و بيتنا الخشبيّ؟ أمازلتِ تزورينه أم أنَّ البعد محى أثر الحّب و الفراق أصبح وشيكا. آه.. نسيت أن أخبرك أننا نتّجه شرقا. ليستطرد في الرسالة الخامسة قائلا: المكان باردٌ جدا وموحش،أشعُر بتجمُّد أصابعي ومعها كلَّ أحلامي و رسائلك المحمَّلة بالأشواق لم تعدتصلني منذ عام،وحده الرَّصاص يجعلني يقظا حتَّى لا أفقد أصبعا،و أخاف حينها أن يتبعثر وجهك أمامي، فأفقد صوابي، أجلس القرفصاء لأحتمي بنفسي، و أحاول تذكّر كلّ الأحلام.
أخبريني في رسائلك القادمة هل أينعت زهرة الأقحوان أم ذبلت مثلي؟. لتنهي الكاتبة مجموعتها برسالة أخيرة: تأتينا الأحلام بغتة، لا تخبرنا عن وجهتها، ألامس وجهها المتسرِّب منِّي، أبحثُ عنكِ في كلّ الوجوه، لكن تضيع البوصلة في زحمة الحرب، أستأنف رحلتي و أنا أبحث عن المتسرّب منّي، أبتسم مكابرا ألوِّح بيداي، و أنا أحاول بلع غصَّة تخنقني، يهزمني الشَّوق فأهرع إلى الذِّكريات أحاول مدَّ جسر إلى الأمام لكنِّي أتعثر بأوهامي الَّتي خلتها ذات يوم معكِ حقيقة.
تتضارب الأمنيات فتسفر الهزّة عن تحطُّم ما رمّمته لوقت طويل، هي أحلامنا حين تستنكر لنا و رسائلكِ الَّتي رغم الحرب تسعدني انقطعت عنِّي نهائيا، و ضيّعني السَّراب كما ضيّع القوافل قبلي. هكذا تبدع الكاتبة في سرد وقائع قصصها بلغة تراوحت بين النوستالجيا الشاعرية والعاطفة الجياشة متعاطفة مع أبطالها لتصنع منهم نجوما لنصوص تأتي ولادتها عسيرة وبأسلوب أقل مايمكننا وصفه بالسهل الممتنع والممتع في نفس الوقت، ويخيل لك وأنت تقرأ نصوص المجموعة أنك تعرف شخوص المجموعة وأحداثها لتصيبك الدهشة والذهول وتلك هي أهم ميزة تميز أسلوب الكاتبة حنان بلحرمة التي ذهبت إلى حد بعيد مستلهمة من واقعنا نصوصا تنضح نضجا فهنيئا للكاتبة بهذا المنتج الذي نتمناه إضافة نوعية لمكتبة السرد العربية وأن تحظى هذه المجموعة بدراسات أكادمية ورسائل جامعية مع جميل التوفيق.
الكاتب حركاتي لعمامرة بسكرة الجزائر.