76482
0
مذكرات شاهد على سنوات الجمر الحلقة 153

بقلم اسماعين تماووست
في الحقيقة، لم يكن نقص النتائج الملموسة مجرد إخفاق بسيط بالنسبة لنا؛ بل كان كابوسًا يقض مضاجعنا ويضعنا على حافة اليأس. شعرتُ حينها كأننا صيادون تائهون، نلاحق ظلال فرائس لا نراها إلا لتختفي مجددًا.
كنتُ أدرك، بحكم خبرتي الطويلة في الميدان، أن عملنا لم يكن مجرد مطاردة لعدو، بل كان مواجهة مع عقلية تتسم بالمكر والاختباء مثل حيوان برّي يقضي الشتاء في جحره المظلم، ينتظر أن يختفي عنا ثم يظهر من جديد، ليواصل حربه القذرة دون رحمة.
كان الإرهابيون، وهم خصمنا الذي لا يرحم، يلجؤون غالبًا إلى الاختباء في بيوت شركائهم المجهولين، حيث تختفي خططهم الشيطانية خلف جدران صامتة، ولكنها شاهدة على جرائم لا تغتفر. كان هذا يشكل تحديًا مزدوجًا لنا: فنحن نواجه خصمًا يختفي في الظلام، وعقلية خبيثة لا تكل ولا تمل من تغيير تكتيكاتها باستمرار.
ومع كل يوم يمر، كنت أشعر بأننا نغرق أكثر في دائرة مفرغة، حيث تتكرر المحاولات الفاشلة وتزداد المخاوف من أننا لن نتمكن أبدًا من وضع حد لهذه الفوضى التي تبتلع وطننا.
وحين تضيق بهم الأرض، كانوا يهربون إلى أعماق الجبال الوعرة والغابات الموحشة، متخذين من الطبيعة حليفًا ومأوى لهم، خوفًا من عيوننا التي لم تكن تعرف النوم.
كان علينا، نحن رجال الأمن، أن نكون أكثر من مجرد رجال شرطة؛ كنا في حرب مع عدو يتنقل بسرعة بين الظل والضوء، يجيد الاختباء والظهور في الوقت والمكان المناسبين. كانت الهزائم الصغيرة التي كنا نتعرض لها في هذه المطاردة المستمرة هي ما تبني الحواجز النفسية التي كانت تهدد بتدمير معنوياتنا.
كنتُ، بصفتي قائدًا لفريقي، أحمل على عاتقي عبء الحفاظ على معنوياتهم، رغم الإرهاق الذي كان ينهش أرواحنا، لم يكن الأمر سهلًا، فكل مرة نعود فيها دون تحقيق أي تقدم، كنتُ أرى في أعينهم تساؤلات لا ينطقون بها: "هل ستنتهي هذه المطاردة يومًا؟" كنتُ أعلم أن صمتي لا يكفي، وأن عليّ أن أكون مصدر القوة الذي يعيد شحن عزيمتهم. كنتُ أقول لهم دائمًا: "في هذه الحرب، كل خطوة وإن كانت صغيرة، تقربنا من الضوء الذي نسعى إليه."
في تلك اللحظات التي كان يخيّم فيها اليأس على أفكارنا، كنت أستحضر كلمات والدتي التي كانت تقول لي دائمًا: "العدالة لا تأتي بسهولة، ولكنها تأتي بالتأكيد." كانت تلك الكلمات تلاحقني، وتمنحني القوة التي أحتاجها للتمسك بمبادئنا، مهما كانت الظروف. كنا نعلم، رغم كل هذه الصعوبات، أن التزامنا بالقيم التي نشأنا عليها كان وحده ما يميزنا عن أولئك الذين يسعون لتدمير وطننا.
لكن في أعماقي، كنتُ أعاني من صراع داخلي. لم تكن مجرد مطاردة للإرهابيين، بل شعور دائم بالعجز أمام خصم يعرف كيف يستغل أية ثغرة، خصم يُشبه ذئبًا جريحًا يختبئ، لكنه لا يفقد خطورته.
لم أكن أستطيع أن أغفل عن حقيقة أن هؤلاء المجرمين ليسوا إلا أدوات تُحركها أيادٍ خفية تسعى لتدمير وطننا، كنت أعرف أن مهمتي كانت أكثر من مجرد ملاحقة الإرهابيين؛ كانت مهمتي حماية أرواح الأبرياء الذين كانوا يعانون في صمت بسبب هذا الصراع المستمر.
ومع ذلك، لم يكن الاستسلام خيارًا بالنسبة لي. كقائد ميداني، وكإنسان مؤمن بعدالة قضيتي، كنتُ أجد نفسي في كل يوم أستمد شجاعة جديدة من مجرد فكرة أن حماية الأبرياء هي واجب لا يمكن التخلي عنه. كنتُ أعلم أن فريقنا، رغم كل الضغوط، لن يتراجع أبدًا، لأننا كنا نحمل في قلوبنا إيمانًا بأن العدالة، مهما تأخرت، ستُحقق يومًا. كان شعورًا عميقًا، شعورًا لا يمكن أن يفسره الكلمات، لكنه كان يقودنا إلى الأمام رغم كل التحديات.
كل واحد منا كان يحمل في قلبه عبئا أكبر من مجرد مسؤولية مهنية. كنا جميعًا مؤمنين بأننا لا نقاتل من أجل وظيفة، بل من أجل وطننا، من أجل كل فرد في هذا البلد الذي لطالما عانى من ويلات الإرهاب والدمار، كان هذا ما يعطينا القوة للاستمرار، فما دام هناك أمل في أن تنجح هذه الحرب، فنحن سنواصل القتال بلا توقف، دون أن نسمح لليأس أن يقتحم قلوبنا.
في النهاية، كان لدينا يقين واحد: رغم كل الصعاب، ورغم كل الحروب النفسية التي خضناها، كانت العدالة ستنتصر في النهاية، وكان الأمن سيعود إلى بلادنا.
ولكن هذا النصر، كما علمنا طوال فترة خدمتنا، لا يأتي بسهولة، بل يتطلب تضحيات وصبرًا لا حدود له. وقد كنا على استعداد لذلك، لأننا نعلم أن التضحية من أجل الوطن هي أعظم ما يمكن أن يحققه الإنسان في حياته.
مع تصاعد الأحداث الأمنية في البلاد، بدا عملنا أكثر تعقيدًا وضغطًا، وأقل متعة. بدأت أشعر أن فرق العمل التي كانت تتكون عادة من ثلاثة إلى أربعة عناصر من مختلف الرتب، والتي كانت تُعزَّز أحيانًا بعناصر عسكرية وفقًا لحجم المهام، تعاني من ضعف التنسيق وغياب الانسجام. هذا النقص كان يُثقل كاهلنا ويزيد من صعوبة تحقيق الأهداف المطلوبة في مواجهة هذا التحدي غير المسبوق.
في بداية المأساة، صدرت تعليمات صارمة من السلطات العليا إلى جميع الأجهزة الأمنية والشرطية، بوضع ملف الإرهاب في صدارة الأولويات الوطنية. كان الهدف هو السيطرة على الوضع من خلال تحقيقات دقيقة تؤدي إلى اعتقال المجرمين المسؤولين عن هذه الجرائم. أرادت السلطات إثبات قدرتها على القضاء بسهولة على هذه الظاهرة، التي اعتُبرت آنذاك مجرد تمرد بعض الجهلة والمغرر بهم.
لكن الحقيقة كانت مغايرة. بدا عملنا في البداية ضعيفًا ومُرتجلًا، إذ بدت مكافحة الإرهاب كظاهرة جديدة تمامًا، لم تكن ضمن الأنشطة اليومية الروتينية التي اعتدنا عليها في العمل الشرطي.
قبل الهجوم الدموي على مركز الشرطة في "الصومعة" بولاية البليدة، كانت أنشطتنا تنحصر غالبًا في تنظيم الملفات الإدارية، حفظ النظام العام، العمل في مجال الشرطة القضائية، وجمع المعلومات الاستخباراتية الأساسية.
كان مستوى المخاطر والتهديدات قبل هذا الحدث المأساوي أقل وضوحًا، مما جعل الكثير من المؤسسات تتعامل مع الأمن بقدر أقل من اليقظة، لكن، هذا التهاون أدّى إلى كارثة لا تُنسى، هجوم على مدرسة الشرطة في "الصومعة"، والذي سيبقى محفورًا في ذاكرتنا كواحد من أكثر الأخطاء المهنية فداحة.
الهجوم الوحشي الذي استهدف هذه المؤسسة، والذي نفذته مجموعة إرهابية استغلت الثغرات الأمنية، كان بمثابة جرس إنذار، أدركنا حينها أن الخطر لا يقتصر على الأطراف البعيدة فقط، بل يمكن أن يضرب في صميم مؤسسات الدولة الحيوية.
لقد كان هذا الهجوم بمثابة اختبار فعلي لمدى جاهزية الأجهزة الأمنية، وكشف عن الحاجة الماسة لإعادة النظر في استراتيجيات الحماية والتأهب.
هذه الحادثة صنعت انقسامًا واضحًا بين الحق والباطل، بين الخير والشر، وبين الولاء للوطن والخيانة له.
هناك من ظلوا أوفياء لوطنهم، يضحون بأرواحهم للدفاع عن الوطن والشعب، وفي المقابل، كانت هناك فئة اختارت طريق الخيانة، لتنخرط في مخططات تستهدف ضرب وحدة الشعب الجزائري وأمنه.
إنّ الدفاع عن الوطن ليس مجرد واجب وظيفي، بل هو التزام مقدس، دين يُمارس بإيمان وإخلاص. عندما يحترق الوطن، لا يمكن للوطنيين الحقيقيين أن يبقوا متفرجين.
رغم الكارثة، كانت هناك إرادة جماعية لإعادة البناء والتصحيح. أدركنا أن العمل الأمني في هذا السياق لم يعد مجرد وظيفة روتينية، بل هو معركة وجود. كانت تلك اللحظة بداية لمرحلة جديدة من التفكير، مرحلة يتطلب فيها الأمر إجراءات جذرية لضمان عدم تكرار مثل هذه الحوادث المؤلمة.
وقد تعلمت من خلال هذه التجربة أن الخطر لا يأتي دائمًا من الخارج، بل قد ينبع من الداخل، من استغلال الفجوات والثغرات، تلك الحادثة فتحت أعيننا على أهمية اليقظة الدائمة، ليس فقط في مواجهة الإرهاب، بل في الحفاظ على وحدة الشعب وقيمه.
ومع مرور الوقت، كان واضحًا أن الوضع الأمني يتطلب تحركًا جماعيًا، وتنسيقًا أفضل بين جميع الأجهزة الأمنية والعسكرية. لا مجال للأخطاء بعد الآن، لأن أي خطأ قد يكون ثمنه دماء الأبرياء.
في تلك اللحظة، أدركت أننا أمام واقع جديد تمامًا، واقع يتطلب أن نكون أكثر حزمًا ويقظة في مواجهة تهديدات الإرهاب، وأن نعيد النظر في كل الإجراءات الأمنية لضمان حماية مؤسساتنا، وحماية وطننا العزيز.
يتبع...