48
0
مكي سوداني ... "الحكواتي" ليس صدفة، بل ثمرة أربعين سنة من العطاء

في زمن تُختزل فيه القصص في ومضات قصيرة، ويُختطف فيه انتباه الجمهور بين آلاف الفيديوهات المتسارعة، يخرج من عمق الجنوب الجزائري، من ولاية توقرت، صوتٌ دافئ، عميق، ومختلف... صوتٌ يعيدنا إلى دفء الحكاية، وصدق الحرف المنطوق، وجمالية السرد الشفهي... إنه صوت مكي سوداني، فنان مسرحي، مخرج، كاتب، ومجدد لفن الحكواتي بأسلوب عصري، نابع من الجذور، ممتد نحو الآفاق.
محمد الحسان رمون
لقاؤنا به لم يكن مجرد مقابلة صحفية، بل جلسة اعتراف صادق، ومكاشفة فنية عن مسيرة دامت أكثر من أربعين سنة، حمل فيها الفنان مكي سوداني مشعل المسرح والتراث، وعمل على إعادة إحياء فن الحكواتي، الذي ظل حاضرًا في ذاكرته منذ الطفولة، ومترسخًا في وجدانه كأحد أهم أشكال التعبير الثقافي الجزائري والعربي.
الحكواتي ابو المسرح
"الحكواتي ليس صدفة... بل خلاصة سنوات طويلة من العطاء والبحث" ، بهذه الكلمات بدأ الفنان مكي سوداني حديثه، مؤكّدًا أن فن الحكاية الشعبية لم يكن بالنسبة له مجرد وسيلة للترفيه، بل كان مشروعًا فكريًا وفنيًا متكاملًا. وهو يرى في الحكواتي شخصية مركبة ، تضم في ملامحها الممثل، الشاعر، العازف، الحكيم، والمُربّي، فهو من يُتقن الإلقاء، ويُجيد الأداء، ويتحكم في الإيقاع، ويُوصل رسائل خفية عبر حكايات بسيطة ظاهريًا، عميقة في جوهرها.
يضيف مكي سوداني: "إذا كان المسرح هو أبو الفنون، فإن الحكواتي هو أبو المسرح... لأنه الأصل، هو الذي جمع الناس حول الحكاية، قبل أن تظهر الخشبة والديكور والمؤثرات... إنه فن جامع ومركب".
يعود الفنان بذاكرته إلى بدايات تشكّل الفكرة، قائلًا: "في طفولتي، كنت أستمتع بالجلوس إلى عمّاتي وأمهاتي وهنّ يروين الحكايات الشعبية في الأفراح أو حتى في ليالي الشتاء. كانت تلك اللحظات تشكّل وعيي الأول بفن السرد، وتشعل خيالي". ومن هذه البيئة الحميمية، تبلورت فكرة فقرة "حكواتي"، التي تحولت مع مرور السنوات إلى عمل مدروس، يعكس الأصالة ويواكب الحداثة.
اللقاءات العائلية كانت البداية
انطلقت التجربة فعليًا في اللقاءات العائلية والمناسبات، ثم بدأت تتوسع لتشمل الفضاءات الثقافية، المدارس، الجمعيات، وحتى المهرجانات الوطنية والدولية. يؤكد مكي أن الحكايات التي يسردها ليست مجرد نقل لما سمعه، بل عملية إبداعية واعية، يختار من خلالها الحكاية، ويعيد صياغة النهايات أو الرسائل، بما يتناسب مع الأهداف التربوية والثقافية التي يسعى لترسيخها.
حين سُئل عن مصدر قصصه، أوضح مكي سوداني أن الحكايات في بدايتها كانت تُجمع من أفواه كبار السن، خاصة ممن ما زالوا يحتفظون بذاكرة قوية للتراث الشفهي. لكنه لا يلتزم بالنص الحرفي، بل يُجري تعديلات فنية وتربوية، كأن يُغيّر النهاية عندما تكون ظالمة أو تُروّج لسلوك خاطئ، مؤمنًا أن الحكواتي لا ينقل فقط، بل يُربي ويوجه.
كما لا يتوقف عند التراث فقط، بل يرى أن الواقع المعاصر مليء بالحكايات التي تستحق أن تُروى. لذلك يسعى لدمج القضايا الراهنة والرسائل الاجتماعية في بعض عروضه، ما يجعل "الحكواتي" أقرب إلى الناس ، وأكثر قدرة على التأثير في وعيهم.
مواكب التطورات الحديثة
رغم الطابع التراثي لفنه، لم يتقوقع الفنان مكي في الماضي، بل أدرك منذ وقت مبكر أهمية التفاعل مع الوسائط الحديثة، خاصة الإعلام الرقمي. وقد أنشأ صفحة على فيسبوك ينشر فيها مقاطع من عروضه، وتفاجأ بحجم التفاعل الكبير، خصوصًا من فئة الأطفال وأوليائهم، الذين أبدوا شغفًا منقطع النظير تجاه الحكايات، وتابعوها بانبهار وفضول.
"صحيح أن العصر الرقمي فرض إيقاعه السريع، لكن للحكاية وقعها الخاص، ودفئها الذي لا يمكن لأي شاشة أن تعوّضه"، يقول مكي سوداني، وهو يؤمن أن الجمع بين الأصالة والتقنيات الحديثة هو الطريق الأمثل لضمان استمرارية فن الحكواتي.
من بين التجارب التي أثّرت في الفنان، مشاركته في الملتقى الدولي لأدب الطفل بمدينة ورقلة، حيث قدّم عرضًا مميزًا باللهجة المحلية، ونال إعجاب الحاضرين من الجزائر وخارجها ، مثل هذه المواقف يقول مكي، تمنحه طاقة داخلية هائلة للاستمرار، وتثبت له أن الجمهور لا يزال متعطشًا للصدق الفني، حتى لو تعددت الوسائط وتغيرت الأذواق.
طموح الفنان مكي لا يتوقف عند حدود الفقرة أو العرض المباشر، بل يسعى إلى تطوير المشروع ليأخذ أشكالًا جديدة، كتحويل الحكايات إلى عروض مسرحية مدرسية متنقلة، أو إنتاج سلسلة تلفزيونية مخصصة للأطفال والأسرة، تعتمد على الحكواتي كأداة مركزية للسرد والتعليم.
يضيف: "تواصلت مع قنوات تلفزيونية وعرضت المشروع، كما حاولت التعاون مع مؤسسات كبرى كـ سوناطراك لتنظيم جولات ثقافية، لكن لم تتجسد الفكرة بعد. رغم ذلك، أؤمن أن الوقت سيأتي، فالفكرة قوية، والجمهور موجود، والأمل لا يموت".
في ختام اللقاء، وجّه مكي سوداني تحية حارة لجمهوره، وأعرب عن امتنانه العميق لجريدة بركة نيوز على دعمها لهذا الفن الأصيل، قائلاً: "تغطيتكم لمشروعي ليست مجرد دعم إعلامي، بل هي بمثابة دفعة نفسية وفنية للاستمرار. أعدكم أن نواصل العطاء، وسنعمل على تقديم أعمال تليق بجمهور واعٍ، يحب الثقافة، ويحترم التراث".