383
0
مهرجان إيمدغاسن السينمائي يفتح نوافذ الفن على سحر الطبيعة في جبال الشلعلع

لم يكن برنامج الطبعة الخامسة من مهرجان إيمدغاسن الدولي للسينما المنعقد حالياً بمدينة باتنة (10 – 16 سبتمبر)، مجرد تظاهرة فنية تحتفي بالصورة والشاشة الفضية بل تحول إلى جسر حقيقي يربط بين الإبداع السينمائي وروعة الطبيعة الجزائرية بعدما أدرج المنظمون في رزنامة فعالياته جولات استكشافية إلى أهم الوجهات السياحية والأثرية في المنطقة.
ريبورتاج:ضياء الدين سعداوي
وإذا كان ضيوف المهرجان قد تجولوا في اليوم السابق بين أعمدة مدينة تيمقاد الأثرية ومتحفها الزاخر بلوحات الفسيفساء النادرة، فإن رحلة اليوم السبت قادتهم إلى عمق جبال الشلعلع حيث تقف غابات الأرز الأطلسي المعمرة شاهدة على عراقة التاريخ وسخاء الطبيعة.
على دروب "الوادي الأزرق"
إنطلقت القافلة السياحية من قلب مدينة باتنة في إتجاه بلدية وادي الشعبة عبر الطريق المعروف محلياً بـ "الوادي الأزرق"، لتصل بعد مسافة صعود إلى المنبع الطبيعي "عين الشرشار" القلب النابض للحظيرة الوطنية بلزمة، هناك وجد المشاركون أنفسهم في مواجهة مشهد طبيعي يفيض بهاءً : أشجار الأرز الأطلسي التي تمتد على مد البصر، جذوع شاهقة تضرب بجذورها في الأرض منذ قرون وفضاء بإرتفاع يفوق 1848 متراً عن سطح البحر يتيح رؤية بانورامية لمدينة باتنة وضواحيها.
الجولة لم تقتصر على التنقل بالحافلات بل خاض الضيوف تجربة المشي على الأقدام في الهواء الطلق متتبعين مساراً تم تهيئته خصيصاً بين الأشجار العملاقة، حيث امتزجت رائحة التراب الرطب بنسيم الجبال البارد، لتمنح الزائر لحظة نادرة من الصفاء الروحي والإنغماس في حضن الطبيعة.
الفن يلتقي بالجبال
الرحلة التي جمعت بين ضيوف من جنسيات مختلفة لم تكن مجرد استراحة سياحية بل شكلت مادة إلهام جديدة للفنانين وصناع السينما المشاركين في المهرجان، الفنانة الجزائرية مليكة بلباي عبرت بلسان الكثيرين حين قالت: "لقد أحسن المنظمون الإختيار ونجحوا في جعلنا نستمتع حقاً، أشعر أنني محظوظة بهذه التجربة."
أما المخرجة البولندية بولينا زاجاك، فقد بدت منبهرة بجمال المكان مؤكدة في تصريحها للصحافة الحاضرة: "المكان ساحر ومناظره خلابة، أنصح كل من يزور الجزائر أن يكتشف هذه المنطقة، فهي بحق جديرة بالزيارة."
تلك الشهادات لم تكن عابرة إذ إن المهرجان الذي يسهر على تنظيمه شباب محافظة إيمدغاسن الدولية للسينما، بدا وكأنه يوسع فضاء الشاشة الفضية ليحتوي الطبيعة نفسها، مقدماً للأدباء والفنانين خلفيات واقعية قد تتحول غداً إلى مشاهد في أفلام أو روايات.
الأرز الأطلسي إرث بيئي وحضاري
الأرز الأطلسي الذي تزينت به جبال الشلعلع ليس مجرد أشجار معمرة بل يعد ثروة بيئية نادرة تضع الجزائر في مصاف الدول التي تحتضن هذا النوع من الغابات الفريدة، هذه الأشجار التي قاومت عوامل الزمن والمناخ، تحمل قيمة رمزية بقدر ما تمثل مخزوناً بيئياً إذ تعكس صمود الطبيعة بوجه تقلبات العصور وتجسد في الآن نفسه العلاقة العضوية بين الإنسان وفضائه الطبيعي.
ولعل ما يميز الحظيرة الوطنية بلزمة أنها واحدة من المساحات الطبيعية التي استطاعت أن تحافظ على تنوعها البيولوجي، حيث تلتقي الحياة البرية بالنباتية لتوفر فضاءً متكاملاً للباحثين والسياح على حد سواء ، وفي السياق ذاته، يعتبر إدراج هذه الجولة في برنامج المهرجان رسالة ضمنية للتأكيد على أن الفن لا ينفصل عن محيطه البيئي وأن السينما تستطيع أن تكون صوتاً للطبيعة بقدر ما هي أداة للتعبير الفني.
بين تيمقاد والشلعلع مزيج من التاريخ والطبيعة
رحلة ضيوف المهرجان بين تيمقاد الأثرية وغابات الشلعلع تعكس رؤية المنظمين في جعل هذه التظاهرة أكثر من مجرد حدث سينمائي، فهي جسر للتعريف بثراء الجزائر السياحي والحضاري واستثمار ذكي للبعد الثقافي في الترويج لمناطق الأوراس التي تزخر بالمؤهلات الطبيعية والأثرية.
فمن بين أعمدة الرخام الرومانية في تيمقاد إلى أشجار الأرز الأطلسي في الشلعلع، يعيش الزائر تجربة متكاملة تربط الماضي السحيق بالحاضر المتجدد، وتجعل من الفن ضيفاً دائماً على التاريخ والطبيعة في آن واحد.
سياحة ثقافية نحو صناعة صورة جديدة للجزائر
إن إدراج مثل هذه الأنشطة السياحية في مهرجان دولي للسينما يندرج ضمن إستراتيجية أوسع، تسعى إلى إعادة تقديم الجزائر بصورة مختلفة للعالم، بلد غني بالتراث الطبيعي والإنساني قادر على أن يكون وجهة سياحية وثقافية في الوقت نفسه ، وبذلك يتحول ضيوف المهرجان من فنانين وأدباء وصحافيين إلى سفراء غير مباشرين لهذه الصورة، ينقلون عبر أعمالهم وانطباعاتهم تجربة إكتشاف الجزائر إلى دوائر أوسع من الجمهور العالمي.
ومع اقتراب اختتام الطبعة الخامسة من مهرجان إيمدغاسن الدولي للسينما، تتضح ملامح فلسفة جديدة لهذه التظاهرة الثقافية التي لم تعد تكتفي بعرض الأفلام أو تنظيم الورشات واللقاءات الفكرية، بل باتت تدمج عن وعي البعد السياحي والبيئي ضمن فضائها.
إنها رسالة بليغة بأن السينما ليست فقط فناً للفرجة بل هي أيضاً أداة لإكتشاف الذات وتكريس الإنفتاح على الجمال في كل أشكاله، سواء كان مشهداً على شاشة أو لوحة فسيفسائية أو غابة أرز شامخة.