202
3
لما تتزامن في الجزائر ذكرى اندلاع ثورتها المجيدة وذكرى رحيل فيلسوف الحضارة
شهادة الشيخ مختار هدام تلميذ الشيخ الابراهيمي و مجند العقيد لطفي وناصح مالك بن نبي في آخر حياته

مصطفى محمد حابس : جينيف / سويسرا
بمناسبة ذكرى اندلاع ثورتنا المجيدة التي تحل علينا كل سنة مع الفاتح من شهر نوفمبر، والتي تصادف أيضا ذكرى رحيل فيلسوف نهضة حضارة أمتها المجيدة. وإحياء لهذه المحطات من تاريخنا، الذكرى الـ 52 لرحيل أستاذ الأجيال، المفكر الجزائري مالك بن نبي ( رحمه الله)، والتي تتزامن مع الذكرى الـ 71 لاندلاع ثورة نوفمبر المباركة، مما زاد تزامنهما هذا في وقت واحد بهجة وسرورا للاجيال، لما لا والله تعالى يقول {قُل بفضلِ اللّه وبرحمته فبذلك فليَفرَحوا}، إذ لولا تضحيات العلماء أمثال مالك بن نبي و لأقرانه والثمن الباهض من دماء شهدائنا إبان ثورة نوفمبر الخالدة والثورات السابقة لها "ما كُنّا لننعم باستقلال باهر مكلف لازال في حاجة الى مجهودات جبارة أخرى بل ثورات ثقافية وعلمية وصناعية للحاق بركب الدول المستقلة فعلا والمتحضرة التي تتبرع اليوم على مصائر الشعوب المستضعفة.
ففي مثل هذه الأيام، وتحديدا يوم 31 أكتوبر 1973، رحل عن دنيانا الفانية المفكّر الكبير مالك بن نبي، رحمه الله رحمةً واسعة، وجزاه عن أمّته خير الجزاء، إذ لم يكن بن نبي في مسا رحياته مجرّد كاتب أو منظّر، بل كان رائدًا لمشروع حضاريّ متكامل، أعاد من خلاله توجيه البوصلة نحو الإنسان والروح والمعنى. شرح بأفكاره الواعدة أنّ أزمة العالم المعاصر ليست أزمة مادّة أو أزمة علم، بل أزمة نفسٍ فقدت توازنها ومعناها.
" تراث بن نبي، وأسرار توزن فكره ومصادر قوته"

كما كنا قد كتبنا في مقال سابق عن ذات المناسبة، تحت هذا العنوان " تراث بن نبي، وأسرار توزن فكره ومصادر قوته"، يمكننا اليوم الجزم دون ريب، أن مالك بن نبي، ترك للأمة و للإنسانية جمعاء فكرًا متميزًا يدعونا إلى أن نبدأ نهضتنا من داخل الإنسان، من صفاء الضمير ووعي الرسالة، قبل أن يمتدّ إلى الثقافة والعلم والسياسة والعمران، كما يلحظ أي منصف عادل ما تركه للأجيال، منهم رجالا عاصروه يخدمون اليوم بأفكاره و يطورونها، من هؤلاء الرجال المعاصرين، الذين عرفوه واستفادوا منه و أفادوا بتراثه، الوالد عمي مختار هدام (رحمه الله)، الذي تعرف على بن نبي عن قرب أكثر في الفترة ما بعد الاستقلال، وأذكر أن أستاذنا المفكر الدكتور توفيق الشاوي (المصري)، وهو من كبار الاخوان، رحمه الله، تعرف عليهما الاثنين في نفس المراحل وقد كتب عنهما مقالا مميزا في منتصف ثمانينات القرن الماضي، وكتب عن الشيخ مختار هدام بإسهاب عن سيرته و نضاله، في جريدتي المساء والنصر الجزائرية، إن لم تخني الذاكرة، ولما أراد الدكتور توفيق الشاوي نشر مذكراته في كتابه المعروف "نصف قرن من العمل الإسلامي"، طلب مني أن أبحث له عن مقاله ليدخله ضمن الشخصيات الجزائرية التي تعرف عليها في الجزائر و خارجها ، فلم أعثر على الجريدة أيامها، وأنا متأسف لحد الآن، لأني كلما زرته في السعودية (رحمه الله)، ذكرني بالمقال وبرجال الثورة الذين تعرف شخصيا عن مجموعة كبيرة منهم، كعمي مختار هدام وشقيقه الأصغر الدكتورالتيجاني هدام، وكذا رموز الثورة كالرئيس بن بلة والحسين آيت أحمد، والشيخ محمود بوزوزو، والوزير مولود قاسم، و الوزير طالب الابراهيمي، و الوزير شيبان وغيرهم كثير، رحمهم الله جميعا.
"سيدي خاي".. المربي السياسي والتربوي الروحي..
و قد تعرف كاتب هذه السطور، على شيخنا عمي مختار في منتصف ثمانينات القرن الماضي، في العاصمة الجزائر، لما يحل ضيفا علينا في مسجد الطلبة بجامعة الجزائر، وكان أيامها مديرا لثانوية البنات بتلمسان، وقد يسر الله على يديه انطلاق أول مجموعة لطالبات محجبات بثانويته، منهن بناته في سبعينات القرن الماضي. كما جلسنا معه أيضا أيام العطل لما يحل ضيفا على العاصمة نهاية الأسبوع مساء في بيت أستاذنا الدكتور محمد ثابت أول(حفظه الله)، ونتمتع معه بأغذية متنوعة الأشكال والأذواق، غذاء علمي نتصفح معه ذكرياته ومحطات من التراث والتاريخ الجزائري والسياسة والتربية الروحية مع الشيخ مختار، أو"سيدي خاي"، هكذا كان يسميه أولاده و بناته وحتى أحفاده، كما نتناول بسبب حضوره غذاء آخر مادي متنوع زاخر من الأكلات والحلويات التلمسانية تعدها لنا خصيصا بكميات معتبرة ابنته الدكتورة الحاجة سلمة (حفظها الله)، رغم تعدد انشغالاتها داخل وخارج البيت.
الشيخ مختار الهدام، سيرة و مسيرة
في مثل هذه الأيام أيضا، و تحديدا 31 ديسمبر 2001 يرحل الشيخ مختار الهدام (1916 ـ 2001)، أي 28 سنة بالتمام و الكمال من وفاة قرينه مالك بن نبي ن رحمهما الله، وهذه نبذة مختصرة عن حياة و مسيرة نضال الشيخ مختار:
ولد الشيخ مختار بن محمد بن مختار الهدام بمدينة تلمسان يوم 6 جوان 1916 من عائلة محافظة يعود تاريخها الى بلاد الاندلس. نشأ يتيما فقيرا في حي شعبي يسمى"باب علي" بتلمسان، حيث توفي والده تاركا إياه في عمر يناهز الحادية عشر وهو الابن الأكبر من بين 6 اخوة واخوات.
أدخله والده بمدرسة حفظ القرآن وتعلم اللغة العربية بحي "القرّان" بتلمسان ليتخرج منها في سبتمبر 1926 حافظا لكتاب الله وهو في السنة العاشرة من عمره.
التحق الشيخ مختار بالمدرسة الفرنسية بتلمسان للطور الابتدائي، ثم بالثانوية الفرنسية بتلمسان ليتحصل على شهادة التعليم الثانوي شعبة الرياضيات في جوان 1937 بفرنسا؛ كان عليه آنذاك السفر الى باريس للامتحان، فمكث هناك مدة ودرس بالسوربون.
تتلمذ على يدي شيخه العلامة الإمام البشير الابراهيمي نائب رئيس جمعية العلماء المسلمين
كان مختار هدام، منذ صغره، من تلامذة جمعية العلماء المسلمين حيث كان يحضر باستمرار دروس شيخه العلامة الامام البشير الابراهيمي رحمه الله ـ ولقد كُلف خلال حفل تأسيس مدرسة "دار الحديث" بتلمسان، وهو في عمر يناهز العشرين سنة، بمسؤوليات ترتيب أمن ضيوف الحفل من علماء وشخصيات، قدموا لتلمسان، حسب ما يذكر بعض أولاده.
كما كان في نفس الوقت من مناضلي حزب شمال إفريقيا ثم حزب الشعب الجزائري حيث كان مسؤولا عن فرع الحزب بمدينة تلمسان؛ وهناك تعرّف على الرئيس الراحل احمد بن بلة في بداياته النضالية عندما التحق بالفرع قادما من مدينة مغنية، حيث أنخرط أيضا الشاب أحمد بن بلة أيامها، في الكشافة الإسلامية تحت إمرة الشيخ محمود بوزوزو، المرشد العام للكشافة الإسلامية الجزائرية في تلك الفترة على المستوى الوطني.
المناضل مختار هدام يعود الى باريس، هروبا من ملاحقات بوليس الاحتلال..
اضطرّ الشاب المناضل مختار هدام للعودة الى باريس، هروبا من ملاحقات بوليس الاحتلال، في بداية السنة الدراسية لـ 1937 / 1938 والتحق بجامعة السوربون للدراسات العليا في الرياضيات والفيللوجيا. وكان في تلك الفترة يُدَرّس الرياضيات في إحدى ثانويات باريس.
كما استأنف في تلك الفترة نشاطه السياسي في صفوف حزب الشعب. وكانت له فرصة للاحتكاك بكبار زعماء حركات التحرر في المنطقة من مصريين ومغاربة وتونسيون الى جانب الجزائريين، كما تعرف على الدكتور توفيق الشاوي من أيامها.
لكن مع بداية صيف 1940 ومع الحرب العالمية الثانية ، ازداد وضع عائلة هدام تدهورا في تلمسان ، فطلبت منه امه العودة الى البلد ومساعدتها في توفير سبل العيش للأسرة الفقيرة.
عودته الى تلمسان، وتفرغه للتربية والتعليم، وتجنيده للعقيد لطفي وأقرانه.
ومنذ عودته الى تلمسان ، تفرغ للتربية والتعليم ، خاصة في الإدارة، كإطار لمواصلة نضاله من اجل الوطن فاستثمر في الجيل الصاعد، مشجعا اخاه الأصغر التجاني هدام لمواصلة دراسته و الانخراط في النضال السياسي، حيث صار شقيه فيما بعد طبيبا فوزيرا ثم عميدا لمسجد باريس بفرنسا، إبان الاستقلال ..
وهكذا كان من بين تلامذة الشيخ مختار العديد من مجاهدي الثورة التحريرية للمنطقة الغربية، على راسهم العقيد لطفي رحمه الله الذي استأذنه قبل الصعود الى الجبل و الانخراط في الجهاد المسلح؛ وكذلك العديد ممن أصبحوا إطارات الدولة الجزائرية الفتية فور الاستقلال.
وبعد الاستقلال ، كان الشيخ مختار يلقي محاضرات بتلمسان وضواحيها وكذا دروسا دينية في بعض مساجدها. كما انخرط في النشاط الجمعوي في المدينة. مع عمله كمدير لثانوية البنات مليحة حميدو بتلمسان (1969 / 1985)، حتى تقاعده.
نصيحة الشيخ مختار هدام لمالك بن نبي في آخر حياته..
شهادة الأستاذ مختار هدام على الأستاذ مالك بن نبي رحمه الله، يقول فيها التالي :
" تعرفت على الأستاذ مالك بن نبي في الجزائر بعد الاستقلال ولم يكن بيننا تعارف في فرنسا، رغم أننا كنا هناك في زمن واحد، وأنا أعتبر الأستاذ مالك إماما، فقد ضحى وبذل من جهده ووقته الكثير. وقد أتاني قبل وفاته بسنة تقريبا وقال لي: إنني عازم على الهجرة فقلت له إن الشيخ ابن باديس رحمه الله قال عمن يهجر أرض بلاده، وهي في حاجة إليه و لجهده، كأنه يفر من المعركة يوم الزحف، فإذا هاجرت أنت للخارج، فإنك تستسلم للآخرين وتفر من المعركة. فأصغى مالك لنصيحة عمي مختار ، وتراجع مالك بن نبي رحمه الله عن فكرة مشروع السفر للخارج، ولم يدري الشيخ مختار، ما سبب له من الآلام في تلك السنة التي عاشها في الجزائر قبل وفاته، على حد تعبيره، رحمهما الله !!
مضيفا بقوله :" كان مالك رحمه الله مؤمنا بالقضاء والقدر وهو مريض، بحيث لم يتأثر حين أخبره إبني ( طبيب جراح) بأنه مصاب بسرطان الدماغ، فسلم أمره لله، ولم يخبر بذلك أحدا، وظل يجاهد حتى آخر رمق من حياته رحمه الله".
مضيفا بقوله :" إبني الدكتور الحبيب هدام كان من المقربين للأستاذ مالك رحمه الله وكان يعتبره طبيبه الشخصي والخاص".
مضيفا بقوله: " نعم الشيخ مالك بن نبي مفكر و إمام، كيف لا يكون إماما، وهو الذي أسس و بنى أول المساجد الطلبية في الجامعات والمعاهد وألهب حماس الشباب نحو وعي حضاري فاعل طيلة سنوات الاستقلال..إن مالك بحق إمام الأئمة ومصلح الأمة، حاضر وأطر وكون ورافع في كل جامعات الدنيا ووجه النخبة نحو تغيير حضاري شامل لينقذ الأمة من الضياع.. إن مالك بكلمة واحدة " ملهم الأجيال"، رحمهما الله جميعا، و نفع الله بعلمهما الأجيال.. و رحم شهداء ثورتنا المجيدة، و الهم شبابنا حسن الاقتداء، بمثل هؤلاء الكبار، رجال شامخون ، شموخ جبال الأوراس و جرجرة و الونشريس.. والله ولي التوفيق ناصر العباد و محرر البلاد من كل أنوع الاستعباد ( إنه ولي ذلك والقادر عليه ).

