543
0
خرق فرنسي أم سلوك ممنهج؟
حين تنتهك الأعراف الدبلوماسية بلا إشعار

بقلم: ضياء الدين سعداوي
في مشهد يعيد إلى الواجهة إشكاليات الثقة بين الجزائر وباريس، أصدرت وزارة الشؤون الخارجية الجزائرية بيانًا شديد اللهجة عبرت فيه عن "استغرابها الكبير" من إجراء فرنسي حال دون وصول الأعوان المعتمدين بسفارة الجزائر في فرنسا إلى المناطق المقيدة بالمطارات الباريسية بهدف التكفل بالحقائب الدبلوماسية، هذا التطور لم يكن ليحدث لولا مساس واضح بقواعد التعامل الدبلوماسي المتعارف عليها بل و انتهاك صريح لإتفاقية فيينا للعلاقات الدبلوماسية لعام 1961.
لكن ما الذي حدث فعلًا؟ وكيف يُقرأ هذا الموقف من زوايا أعمق من مجرد "سوء تنسيق" أو "خلل إداري" كما تحاول بعض الأوساط الفرنسية الإيحاء به؟
دبلوماسية الحقائب… ما وراء الحظر؟
الحقائب الدبلوماسية ليست مجرد طرود أو وثائق بل هي ركيزة من ركائز السيادة المعترف بها دوليًا لكل دولة تمارس نشاطًا دبلوماسيًا في بلد آخر ، وقد كفلت إتفاقية فيينا صراحة في مادتها السابعة والعشرين حق كل بعثة في إرسال وتسلم تلك الحقائب بحرية تامة ودون تدخل وهو ما لم تلتزم به السلطات الفرنسية.
الجزائر التي عبرت عن رفضها القاطع لهذا السلوك ، أكدت أن القرار حسب الرد الفرنسي قد اتخذ من قبل وزارة الداخلية الفرنسية دون علم أو تنسيق مع وزارة أوروبا والشؤون الخارجية مما يدل – بحسب بيانها – على "انعدام تام للشفافية" وهو تعبير غير مألوف في أدبيات الدبلوماسية لكنه في هذه الحالة يعكس حدة الإستياء وربما حجم الريبة من وجود نوايا مبيتة تتجاوز مجرد خطأ بروتوكولي.
توقيت حساس و رسائل غير بريئة!
يأتي هذا الحادث في سياق سياسي وإقليمي حساس حيث تمر العلاقات الجزائرية الفرنسية بمراحل مد وجزر لا تخلو من التوترات التاريخية والرهانات الجيوسياسية، فرنسا التي تحاول منذ سنوات إعادة ترتيب أوراقها في منطقة الساحل الإفريقي، تجد في الجزائر شريكًا غير هين ، إن لم يكن خصمًا في بعض الملفات خصوصًا مع تصاعد الدور الجزائري في القارة.
من هذا المنظور قد لا يكون القرار "البيروقراطي" الفرنسي مجرد إجراء أمني داخلي بل ربما يحمل رسائل ضغط غير مباشرة في وقت تعرف فيه العلاقات الثنائية فتورًا متزايدًا وانزعاجًا فرنسيًا من مواقف جزائرية مستقلة في ملفات دولية وإقليمية.
المعاملة بالمثل… خيار السيادة
رد الجزائر كان واضحًا ، تطبيق صارم وفوري لمبدأ المعاملة بالمثل مع التهديد بإستخدام كافة الوسائل القانونية بما في ذلك اللجوء إلى الأمم المتحدة. هذا الرد لا يحمل فقط نبرة احتجاج بل يرسم حدودًا جديدة في التعامل مع أي طرف دولي قد يعبث بأصول السيادة الجزائرية.
ما تريده الجزائر ليس صدامًا جديدًا بل احترامًا متبادلاً يقوم على أسس القانون الدولي والأعراف الدبلوماسية، بعيدًا عن سياسات الهيمنة القديمة أو تصرفات الأجهزة الأمنية التي تتجاوز سلطاتها.
من باريس إلى نيويورك… الدبلوماسية الجزائرية في اختبار صبر
البيان الجزائري وإن بدا تقنيًا في مضمونه، يحمل في طياته ملامح عقيدة دبلوماسية جديدة تتسم باليقظة وعدم التساهل واستعداد كامل لتدويل النزاعات متى تعلق الأمر بالكرامة السيادية، إنها لحظة اختبار ليس فقط للمؤسسات الفرنسية بل للدبلوماسية العالمية التي تنبغي عليها حماية الأعراف بدل انتهاكها.
هل تتحول الحقيبة إلى أزمة جديدة؟
قد يرى البعض أن الموضوع لا يستحق كل هذا الجدل وأن الأمر قابل للحل عبر توضيحات فرنسية واعتذارات شكلية ،لكن من يقرأ خلف السطور يدرك أن الجزائر لم تعد تقبل "التجاوز العرضي" كأمر عادي بل تعتبره إخلالًا جسيمًا يجب التصدي له بما يليق بدولة ذات سيادة لها مكانتها الإقليمية وكرامتها أمام الأعراف الدولية.
المعادلة تغيّرت والمجال الدبلوماسي لم يعد ساحة للمناورات الأحادية ، من الآن فصاعدًا أي مساس بسيادة الجزائر ولو عبر حقيبة دبلوماسية سيواجه برد محسوب، صارم ومؤلم.