614
0
حين يسقط القناع عن “الإنتصار المغربي”: ما بين تمديد عهدة المينورسو وتقرير المصير

بقلم الحاج بن معمر
في زحمة الصخب الدعائي الذي أعقب جلسة مجلس الأمن الأخيرة حول الصحراء الغربية، إندفع الإعلام المغربي الرسمي نحو موجة تهليل هستيرية، معلنًا "انتصارًا دبلوماسيًا ساحقًا" بعد التصويت على تمديد عهدة بعثة المينورسو.
هكذا، بقدرة السردية المضلِّلة، تحوّل تمديدٌ تقنيّ لبعثة أممية إلى “نصر مقدّس” للحكم الذاتي، وكأنّ الأمم المتحدة بدّلت عقيدتها بين عشية وضحاها وتخلّت عن مبدأ تقرير المصير الذي تأسّست عليه.
لكنّ القراءة الهادئة للحقائق والبيانات الرسمية تكشف العكس تمامًا: لم يصوّت العالم على الحكم الذاتي، بل على استمرار البعثة الأممية، ولم يمنح أحدٌ للمغرب شرعية السيادة التي يلهث وراءها منذ نصف قرن، بل أكّد الجميع – بعبارات مختلفة – أن الحل لا يكون إلا من خلال مفاوضات حقيقية تضمن حق الشعب الصحراوي في تقرير مصيره.
الكاتب الجزائري محمد قادري قدّم في مقاله التحليلي المنشور في موقع الجزائر الآن أحد أعمق الردود المهنية على هذه الرواية الدعائية، مستندًا إلى الوقائع لا إلى الانفعالات. فالرجل لم يكتفِ بالتحليل السياسي، بل عاد إلى النصوص الأصلية لتصريحات الدول الأعضاء في مجلس الأمن، فقلب المشهد رأسًا على عقب، مبرزًا أن القرار الأممي رقم 2735 (2025) لا يتجاوز كونه إجراءً إداريًا لتجديد مهمة المينورسو، بينما التوازنات الجوهرية للنزاع ما تزال على حالها: لا اعتراف بالسيادة المغربية، ولا مساس بمبدأ تقرير المصير، ولا شرعية لأي تسوية خارج إطار الأمم المتحدة.
من سلوفينيا إلى الدنمارك، ومن كوريا الجنوبية إلى غيانا، ومن باكستان إلى روسيا والصين، جاءت الكلمات صريحة: “التصويت لا يعني الاعتراف بالسيادة”، “القرار لا يحدد مسبقًا نتائج العملية السياسية”، “يجب احترام حق تقرير المصير”. حتى الدول التي يُروّج المغرب لعلاقاتها “الخاصة” معه كانت أكثر حذرًا من بياناته الرسمية، وأعلنت بصوت واضح أنها لا تنحاز لأي طرف.
سلوفينيا مثلاً قالتها بلا مواربة: “تقرير المصير هو أساس الحل”. والدنمارك شدّدت على أن تصويتها “لا يشكل اعترافًا بالسيادة المغربية”. أما كوريا الجنوبية، فذكّرت بأن القرار “محايد ولا يفرض أي حل مسبق”. هذه المواقف، حين تُقرأ بعين الخبير، لا تُفسَّر إلا كإجماع ضمني على استمرار الاعتراف بواقع النزاع كقضية تصفية استعمار غير مكتملة.
الضجيج الإعلامي المغربي تجاهل كل ذلك. لقد أراد تسويق “الانتصار” لغايات داخلية، في محاولة لتغطية العجز السياسي أمام الرأي العام، واستثمار المينورسو كأداة تبريرية. لكنّ الكارثة الأخلاقية تكمن في أن النظام المغربي يعلم يقينًا أن المجتمع الدولي لا يعترف له بأي سيادة على الصحراء الغربية، وأن قرارات مجلس الأمن لم تتغير منذ 1991: وقف إطلاق النار، مراقبة الأوضاع، والتحضير لاستفتاء تقرير المصير. كل ما عدا ذلك تلاعب لغوي وتضليل إعلامي.
الأكثر من ذلك، أنّ الجزائر، التي حاولت بعض الأقلام المحسوبة على الرباط اختزال دورها في “طرف نزاع”، خرجت أكثر اتزانًا وثباتًا، متمسكة بموقفها التاريخي القائم على احترام القانون الدولي ودعم الشعب الصحراوي في نضاله المشروع.
المندوب الجزائري في الأمم المتحدة لم يذهب بعيدًا في الخطاب، بل عاد إلى الجذور: “نحن مع الشرعية الدولية، ومع تصفية الاستعمار، ومع أن يختار الشعب الصحراوي مصيره دون ضغط أو وصاية”. وهذه الجملة وحدها نسفت جبالاً من الدعاية التي حاولت تحويل المسألة إلى نزاع ثنائي.
المفارقة المدهشة أن حتى الدول التي امتنعت عن التصويت (روسيا، الصين، موزمبيق، باكستان) لم تفعل ذلك انحيازًا للجزائر أو جبهة البوليساريو، بل رفضًا لنصّ القرار الذي وصفته موسكو بأنه “غير متوازن” و”يتجاهل الأسس القانونية للنزاع”.
بكلمة أخرى: لم يصوّت العالم لصالح المغرب، بل صوّتت بعض الدول لصالح استمرار البعثة، وامتنعت أخرى رفضًا للتجاوزات اللغوية في النص، بينما ظلّ المبدأ الأممي محفوظًا في مكانه: حق تقرير المصير للشعب الصحراوي لا يُمسّ.
من هنا، يتجلّى أن القرار الأممي الأخير ليس أكثر من تمديد روتيني لعمل المينورسو في منطقة ما تزال تنتظر العدالة. أما محاولة النظام المغربي تصويره كتحوّل في الموقف الدولي فهي قفزة في الفراغ، وسلوك دعائي هدفه صناعة وهم الانتصار حيث لا انتصار. فالشرعية لا تُستعار من قرارات مؤقتة، والسيادة لا تُكتسب بالبيانات الإعلامية، بل بالاعتراف الدولي، وهذا ما لا يملكه المغرب حتى اللحظة.
الأمم المتحدة لم تقل يومًا إن “الصحراء مغربية”، ولم تصدر أي دولة دائمة العضوية في مجلس الأمن بيانًا يعترف بسيادة الرباط على الإقليم. وحتى الدول التي فتحت “قنصليات رمزية” في العيون والداخلة فعلت ذلك تحت ضغط سياسي واقتصادي، دون أي قيمة قانونية ملزمة.
فالاعتراف بالسيادة في القانون الدولي لا يكون بالزيارات أو الصور، بل بالوثائق الرسمية المسجلة في الأمم المتحدة، ولا وجود لوثيقة واحدة تفيد بأن الصحراء الغربية جزء من المغرب. تلك هي الحقيقة التي يخشاها الإعلام المخزني، لأنها تقوّض كل سرديته.
الأكثر خطورة أن النظام المغربي يحاول استغلال كل قرار تقني لتبرير هيمنته الميدانية على الأرض، متناسياً أن أي تغيير في الوضع القانوني للصحراء الغربية خارج إطار الأمم المتحدة يُعدّ خرقًا للقانون الدولي واعتداءً على شعب محميّ بحق تقرير المصير. إنّ رهان الرباط على “الزمن” كوسيلة لفرض الأمر الواقع هو رهان خاسر، لأن الشعوب لا تُستعمر بالانتظار، بل تتحرر بالإصرار.
وفي المقابل، تواصل الجزائر موقفها الثابت الذي لم يتبدّل منذ عقود: دعم الحل العادل والدائم الذي يضمن للشعب الصحراوي ممارسة حقه غير القابل للتصرف في تقرير مصيره، وفق قرارات الأمم المتحدة والاتحاد الإفريقي. هذا الموقف ليس نابعًا من خصومة سياسية، بل من إيمان تاريخي بأن الحرية مبدأ لا يُساوم عليه، وأن من دعم ثورة الجزائر لا يمكنه أن يقف ضد حرية غيره.
لقد حاولت الرباط تحويل معركة الشرعية إلى معركة أصوات، لكنّ القراءة التحليلية الدقيقة تُظهر أن الجزائر لم تخسر شيئًا، وأن جبهة البوليساريو لم تُهزم في ميدان الدبلوماسية، لأن جوهر القرار ما زال يكرّس نفس المرجعية الأممية. أما من خسر، فهو من باع الوهم لشعبه، وأطلق العنان لإعلامه كي يصفق لقرار لا يحمل له سوى التمديد المؤقت لبعثة لا تملك سلطة تقرير مصير أحد.
الحقائق، مهما حوصرت، تخرج في النهاية إلى الضوء. ومهما حاولت بعض العواصم فرض تسويات مفروضة، فإن القانون الدولي لا يُقهر بالمال ولا بالدعاية. فكل بند في ميثاق الأمم المتحدة وكل توصية من لجانها الخاصة بتصفية الاستعمار تقول بصوت واحد: “تقرير المصير حقّ غير قابل للمساومة”. أما محاولات الالتفاف عليه فهي مجرد سراب سياسي لا يغيّر من جوهر النزاع شيئًا.
إنّ المعركة اليوم لم تعد حول تفسير نص القرار، بل حول وعي الرأي العام الدولي بما يجري. فحين يصبح التمديد الإداري للبعثة مادة دعائية لتسويق “الانتصار”، فهذا يعني أن الأزمة انتقلت من الميدان السياسي إلى الميدان الأخلاقي. لأنّ دولةٍ تحوّل الوهم إلى منجزٍ دبلوماسيّ إنما تُعلن إفلاسها أمام شعبها.
في النهاية، يثبت القرار الأممي الأخير أن العالم لم يصوّت على مغربية الصحراء، وأنّ كل ما حدث ليس سوى تجديد لعهدة تقنيةأ ما الحكم الذاتي الذي يروّج له المغرب، فلا وجود له إلا في البلاغات الصحفية.
وفي المقابل، تظلّ الجزائر ثابتة على مبدئها، تحرس ذاكرة الشرعية وتذكّر العالم بأن الحق لا يسقط بالتقادم. فالشعوب لا تنكسر بقرارات مجلس الأمن، بل تكتب مصيرها بدمها وإرادتها. وهكذا، حين يسقط القناع عن “الانتصار المغربي”، يظهر وجه الحقيقة ناصعًا كما هو دائمًا: لا نصر فوق إرادة الشعوب، ولا سيادة تُشترى بقرار أممي.

