221

0

حين تتكلّم الدولة بلغة الصورة..

قراءة في "دور السينما السياسية في بناء صورة الدولة" لإبراهيم الخليل حمّام

بقلم: الحاج بن معمر

ليس من السهل أن تكتب عن السينما حين تكون بصدد كتابٍ لا يتناولها كفَنٍّ جماليٍّ فحسب، بل كأداةٍ لبناء الدولة ورسم ملامحها في المخيال الجمعي. فكتاب الباحث إبراهيم الخليل حمّام «دور السينما السياسية في بناء صورة الدولة»، لا ينتمي إلى الكتابات التقنية التي تحصي أسماء المخرجين أو سرديات الأفلام، بل إلى حقلٍ أوسع هو الفكر السينمائي السياسي، ذلك الفضاء الذي تتقاطع فيه الصورة بالسلطة، والفنّ بالخطاب، والجمال بالهيمنة.
إنه كتابٌ يذهب إلى أبعد من التحليل، ليؤسّس لمفهوم جديد في الدراسات البصرية العربية: الدولة بوصفها مشهدًا سينمائيًا متخيَّلًا، لا كيانًا سياسيًا فحسب.

يكتب حمّام من موقع الباحث الذي يدرك أن الصورة لم تعد زينةً ثقافية، بل أداة استراتيجية في صناعة الوعي، وأن السينما هي المرآة التي تعكس ما تريد الدولة أن يراه العالم فيها، وما تريد الشعوب أن تراه من نفسها. هكذا، لا يتعامل المؤلف مع الفيلم كمنتوج ثقافي عابر، بل كـ نصٍّ رمزي يُعيد إنتاج السلطة في المخيال، ويؤسّس، عبر تقنياته الجمالية، لمعاني السيادة والانتماء والهوية.

يبدأ الكتاب من فرضيةٍ جوهرية مؤداها أن السينما السياسية ليست فرعًا من السينما، بل هي أصلها ومحرّكها؛ لأن كل فعلٍ سينمائي هو بالضرورة فعلٌ سياسي، حتى في صمته الجمالي أو حنينه الإنساني. فالفيلم، كما يرى الكاتب، ليس مجرد حكاية تُروى، بل رؤية للعالم تُبنى، ومن خلال هذه الرؤية تُرسم صورة الدولة، وتتكوّن سرديات القوة والضعف، النصر والهزيمة، العدالة والهيمنة.

ولأن الدولة الحديثة لم تعد تكتفي بتعريف نفسها بالدستور أو العلم أو الخطاب الرسمي، صارت السينما، كما يوضح حمّام، جزءًا من بنية تمثيل الذات الوطنية. فحين تصنع هوليوود فيلمًا عن الجندي الأميركي أو عن البيت الأبيض، فإنها لا تروي واقعةً بقدر ما تؤسس لأسطورةٍ بصريةٍ تكرّس تفوق الدولة الأخلاقية والعسكرية. كذلك تفعل السينما الروسية، والفرنسية، والصينية، كلٌّ بطريقتها الخاصة، إذ تتخذ من الكاميرا سلاحًا رمزيًا لتثبيت صورة الدولة في الوجدان المحلي والدولي.

هنا تكمن قوة الطرح في كتاب حمّام: إنه لا ينظر إلى السينما بوصفها مرآة للواقع فقط، بل كـ أداة لإنتاج واقعٍ جديدٍ ومتحكمٍ فيه. فالصورة السينمائية، كما يصفها، هي خطابٌ ناعمٌ يُعيد ترتيب الوعي دون أن يثير مقاومة، لأنها تُخاطب العاطفة قبل العقل، والخيال قبل الإدراك. وهذا ما يجعلها – في نظره – أخطر من أي خطاب سياسي مباشر.

يمضي المؤلف، بلغةٍ تجمع بين التحليل الأكاديمي واللمسة الشعرية، إلى تفكيك مفهوم «القوة الناعمة» كما صاغه جوزيف ناي، ويُسقطه على الحقل السينمائي، ليبيّن أن السينما هي الذراع الثقافي الأعمق في هندسة النفوذ السياسي. فالدولة التي تمتلك سردية بصرية متماسكة، تمتلك القدرة على تسويق صورتها كقيمة إنسانية عالمية، لا كقوة سياسية فقط. ولهذا، يلاحظ حمّام أن الدول التي فشلت في بناء سردياتها البصرية، وجدت نفسها محكومة بصور يصنعها الآخر عنها، وتُختصر فيها كأنها هامشٌ في فيلم الآخرين.

إن البعد الشعري في الكتاب لا ينفصل عن بعده التحليلي. فحمّام لا يكتفي بتفكيك المفاهيم، بل يكتب بلغةٍ تحتفظ بنكهة الضوء والظل، حيث تتحوّل الكاميرا إلى قلمٍ، والمشهد إلى فكرة. يكتب عن السينما كما يكتب شاعرٌ عن وطنه: بشغفٍ وعقلٍ في آن.
في فصوله المتقدمة، يقدّم الكاتب مقاربةً نقديةً لتجارب السينما العربية، معتبرًا أنها لم تستثمر بعد السينما السياسية كقوة معرفية وثقافية. فبينما نجحت بعض التجارب في فلسطين ومصر والجزائر وتونس في تحويل الكادر إلى ساحة مقاومة فكرية، ظلّ أغلب الإنتاج العربي أسيرًا للمباشرة أو المهادنة أو التكرار. وهنا يطرح سؤالًا حادًا: لماذا لا تملك الأمة العربية مشروعًا بصريًا موحدًا كما تملك خصومها؟

في هذا السياق، يولي حمّام اهتمامًا خاصًا للسينما الجزائرية، بوصفها تجربةً فريدة تجمع بين الثورة والذاكرة، بين التاريخ والهوية. يرى أن الجزائر – التي قدّمت للعالم أحد أعظم النماذج في السينما الثورية – تمرّ اليوم بمرحلة فراغ سردي، بعد أن خفت صوت السينما الملتزمة، وغابت الرؤية الثقافية التي كانت تجعل من الفيلم الجزائري وثيقة وطنية وجمالية في آنٍ واحد.
لكنّه لا يكتب من موقع الحنين، بل من موقع الرؤية. فهو يدعو إلى استعادة السينما الجزائرية لجوهرها الأول، أي كونها سينما ذاكرة وشهادة وموقف، لا مجرد صناعة ترفيهية. إنها، في رأيه، مدخلٌ لإعادة بناء الوعي الوطني في زمنٍ تُختزل فيه الأوطان في مقاطع قصيرة على الشاشات الصغيرة.

ومع أن الكتاب ينطلق من الإطار الأكاديمي، إلا أنه يتجاوز اللغة الجامدة إلى أسلوبٍ يحتفي بالتأمل والدهشة. فهو لا يُقدّم أحكامًا جاهزة، بل يُمارس تحليلًا فلسفيًا لجماليات السلطة في الفنّ وجماليات الفنّ في السلطة.
يقرأ المؤلف السينما كوثيقةٍ سياسيةٍ للقرن العشرين والحادي والعشرين، ويعتبر أن فهم الدولة الحديثة لا يكتمل إلا بفهم صورتها السينمائية، لأن الصورة باتت تسبق الواقع وتُشكّله. فالدولة التي تُجيد صناعة صورتها، تُجيد قيادة خيال مواطنيها والعالم.

في إحدى الصفحات اللافتة، يكتب حمّام ما معناه: "ليست السياسة ما يُقال في المؤتمرات، بل ما يُرى في المشهد الأخير من الفيلم." جملة تختصر فلسفة الكتاب كلها: فالدولة التي تفشل في المشهد، تفشل في الذاكرة، والذاكرة في زمن الصورة أقوى من أي خطاب رسمي.
ولذلك، يرى أن الدول الكبرى تدرك اليوم أن الكاميرا لم تعد أداة توثيق، بل أداة هندسة رمزية تُعيد تشكيل الوعي الجمعي للأمم، وأن كل لقطةٍ تُبنى بوعيٍ سياسيٍّ محسوب، لأن الصورة – كما يقول – "لم تعد انعكاسًا للعالم، بل إعادة ترتيبٍ له وفق مصالح من يملكها."

في تحليله للنماذج العالمية، يتناول الكاتب بإسهاب السينما الأميركية بوصفها آلةً سرديةً لاحتكار البطولة والضمير الإنساني. فهوليوود لا تكتفي بتصوير القوة العسكرية، بل تمنحها بعدًا أخلاقيًا يجعلها مقبولةً ومحبوبةً. إنها، كما يقول حمّام، “تصنع الشر وتقدّمه في قالب البطولة”، وهو ما يجعلها قادرة على تحويل العنف إلى فضيلة.
وفي المقابل، يتأمل السينما الأوروبية التي ما زالت – رغم نُبلها الفني – أسيرة نظرةٍ استعماريةٍ ناعمة، تُعيد إنتاج مركزيتها الحضارية حتى في لحظات نقدها لذاتها. بينما تقدّم السينما الآسيوية – وخصوصًا الكورية والإيرانية – نموذجًا مختلفًا يقوم على الهوية المتصالحة مع الذاكرة والواقع.

أما في السياق العربي، فيشير حمّام إلى أن السينما لم تنجُ من هيمنة الخطاب الإيديولوجي، وأنها كثيرًا ما تحوّلت إلى منبرٍ للتبرير أو الوعظ، بدل أن تكون فضاءً للتساؤل. لكنه يرى في بعض التجارب، مثل السينما الفلسطينية والجزائرية، ومضات وعي سينمائي مقاوم، استطاعت أن تقول السياسة بلغة الفن، لا بلغة الشعارات.
فالفيلم الجزائري، كما يصفه، هو “ذاكرة تمشي على شاشة”، لأن الثورة كانت هي الفكرة والمشهد في آن واحد. لكن هذا المجد البصري بدأ يتراجع مع غياب الرؤية المؤسساتية التي تربط السينما بالتربية وبالثقافة الوطنية.

الكتاب لا يقدّم وصفًا للمشهد فحسب، بل يقترح أيضًا منهجًا لفهمه. فهو يربط بين تحليل الصورة وتحليل السلطة، بين البنية السردية للفيلم والبنية الرمزية للدولة. ويقدّم أدواتٍ مفاهيمية يمكن اعتمادها في الدراسات الأكاديمية: مثل مفهوم “التمثيل السياسي للذات”، و“الخطاب البصري للدولة”، و“السينما كفضاء للهيمنة الرمزية”.
بهذه المقاربات، يُسهم الكتاب في توسيع أفق النقد السينمائي العربي، الذي ظلّ طويلًا حبيس اللغة الانطباعية أو التحليل الجمالي الصرف، دون أن يلامس عمق البنية السياسية للصور.

وما يميّز هذا العمل أيضًا هو قدرته على الجمع بين صرامة المنهج وسحر اللغة. فحمّام يكتب كما يصوّر المخرج الماهر: لا جملة زائدة، ولا فكرة تُقال مرتين. الجملة عنده لقطة، والفكرة مشهد، والنص كلّه فيلمٌ نقديٌّ يتنقّل بين النظرية والتاريخ والشعر.
تتجلّى شاعرية اللغة في استعاراته التي تمنح المفهوم روحًا، كقوله: “كل دولةٍ هي مخرجٌ يبحث عن لقطة الخلود.” أو: “حين تُخفق السياسة في الإقناع، تتولّى السينما مهمة التجميل.” هذه العبارات لا تُزيّن النص فحسب، بل تكشف عمق الرؤية التي ترى في الفنّ سلطةً موازية للسياسة.

من الناحية البنيوية، يقسّم الكتاب مادته وفق منطقٍ تصاعدي: من التأصيل النظري لمفهوم السينما السياسية، إلى تحليل العلاقة بين الصورة والسلطة، مرورًا بدراسة أمثلة عالمية، وصولًا إلى قراءة الواقع السينمائي العربي والجزائري.
هذا التدرّج يمنح الكتاب طابعًا منهجيًا يجمع بين الصرامة والمرونة، مما يجعله صالحًا كمرجعٍ أكاديمي وكنصٍّ تأملي في آن واحد.

غير أن ما يجعل هذا العمل مختلفًا هو قدرته على تحويل الفكرة إلى موقف. فالكاتب لا يقف في موقع الناقد المحايد، بل في موقع المفكّر الذي يدافع عن حقّ الصورة في أن تكون سلاحًا للوعي، لا وسيلة للتنويم.
إنه يدعو إلى ثورةٍ بصريةٍ جديدة، تعيد للسينما الجزائرية والعربية دورها في الدفاع عن الذاكرة والكرامة والإنسان، بعيدًا عن الاستهلاك السريع والسطحية التقنية.
ويرى أن كل فيلمٍ سياسيٍّ حقيقيٍّ هو في جوهره فعلُ حبٍّ للوطن، لأن من يصوّر الوجع بصدقٍ لا يقلّ إخلاصًا عن من يواجه بالسلاح.

في خاتمة الكتاب، يصل حمّام إلى ما يشبه البيان الثقافي حين يقول (بمعناه لا بحرفه): "إن الدولة التي لا تعرف كيف تُرى، لا تعرف كيف تكون."
جملة تختصر روح الكتاب كلها: فالصورة ليست مرآة الدولة، بل هي وجودها الرمزي في العالم. والدول، كما الأفراد، لا تموت حين تُهزم، بل حين تُمحى صورتها من الذاكرة.

من هنا تأتي أهمية هذا العمل الذي يقدّمه إبراهيم الخليل حمّام؛ فهو ليس مجرد دراسة أكاديمية، بل صرخة فكرية في وجه التهميش البصري العربي، ودعوة إلى استعادة الحق في السرد، والحق في الصورة، والحق في أن نحلم بشاشتنا كما نحلم بأوطاننا.
إنه كتاب يذكّرنا بأن الدولة التي لا تمتلك سرديتها السينمائية، ستُروى قصتها بعيون الآخرين، وأن من لا يصنع صورته، سيعيش في صورةٍ صُنعت له.

شارك رأيك

التعليقات

لا تعليقات حتى الآن.

رأيك يهمنا. شارك أفكارك معنا.

barakanews

اقرأ المقالات البارزة من بريدك الإلكتروني مباشرةً


للتواصل معنا:


حقوق النشر 2025.جميع الحقوق محفوظة لصحيفة بركة نيوز.

تصميم وتطويرForTera Services

barakanews

اقرأ المقالات البارزة من بريدك الإلكتروني مباشرةً


للتواصل معنا:


حقوق النشر 2025.جميع الحقوق محفوظة لصحيفة بركة نيوز.

تصميم وتطويرForTera Services