815

0

هل تنسى فرنسا دماء نهر السين؟

بقلم الحاج بن معمر 

في تلك الليلة الباردة من السابع عشر من أكتوبر عام 1961، كانت باريس تبدو هادئة على السطح، بينما في أعماقها كانت النار تشتعل، نارُ كراهيةٍ استعماريةٍ ضد الجزائريين الذين تجرّؤوا على رفع أصواتهم للمطالبة بالحرية والكرامة.

آلاف المهاجرين الجزائريين، رجالًا ونساءً وأطفالًا، خرجوا في مسيرة سلمية بدعوة من “جبهة التحرير الوطني” في فرنسا، للاحتجاج على حظر التجول العنصري الذي فرضه عليهم محافظ شرطة باريس موريس بابون، أحد وجوه القمع الاستعماري في القرن العشرين. لكنّ ما كان يُفترض أن يكون مظاهرة سلمية تحولت في تلك الليلة إلى واحدة من أفظع المجازر التي ارتُكبت ضد الجزائريين في قلب أوروبا الحديثة، حين قررت فرنسا أن تُغرق صوت الحرية في نهر السين.

لم تكن المذبحة وليدة لحظةٍ عابرة، بل امتدادًا طبيعيًا لعقلٍ استعماريٍ مهووسٍ بالهيمنة. فرنسا التي احتلت الجزائر عام 1830، ومارست طوال 132 سنةً سياسة الأرض المحروقة، لم تتغير في جوهرها حين خرج الجزائريون إلى شوارع باريس. كان الزيّ فقط مختلفًا، لكنّ الروح ذاتها: روح الإقصاء، والإنكار، والاحتقار الممنهج لشعبٍ أراد أن يكون سيد نفسه.

في تلك الليلة، نزلت الشرطة الفرنسية إلى الشوارع مدججة بالسلاح والعنصرية، تقتاد المتظاهرين بالعصي والهراوات، وتفتح النار على الأجساد الأعزل، وتلقي بالعشرات في مياه نهر السين الذي تحول إلى شاهدٍ على جريمةٍ لا تُمحى من ذاكرة الإنسانية.

مئات الجزائريين قُتلوا غرقًا أو ضربًا أو رميًا بالرصاص. لم تكن هناك محاكم، ولا شهود، ولا عدالة. كانت فرنسا تُمارس إرهاب الدولة في أنقى صوره، وتغسل دماء الضحايا على الإسفلت كأنها تنظف ضميرها.

حتى اليوم، ما زال الرقم الحقيقي للضحايا مجهولًا: الحكومة الفرنسية تقول بضع عشرات، لكن الشهادات التاريخية توثق مئات الجثث التي طفت على سطح النهر في الأيام التالية، بينما كانت السلطات تخفي الأدلة وتحرق الوثائق وتدفن الجريمة في صمتٍ متواطئ.

هذه المجزرة لم تكن فقط جريمة قتل، بل كانت جريمة إنكار. ففرنسا الرسمية، التي تتغنى بشعارات “الحرية والمساواة والإخاء”، ظلت لعقود ترفض الاعتراف بما جرى، وكأن دماء المهاجرين الجزائريين لا تستحق الذاكرة. لم تفتح باريس أرشيفها إلا بعد نصف قرن، وبضغط من المؤرخين والناجين، لكنها ما زالت حتى اليوم تراوغ في الاعتراف الكامل بالمسؤولية السياسية للدولة.

إنّ فرنسا التي لا تتوقف عن تقديم نفسها كحامية لحقوق الإنسان، هي ذاتها التي دفنت مئات الجزائريين في نهرها، ثم ألقت عليهم تراب النسيان. أيّ نفاقٍ أخلاقيٍّ هذا؟ وأيّ ذاكرةٍ انتقائيةٍ تسمح لأمةٍ أن تبكي على “الهولوكوست” وتغض الطرف عن “السينوكوست”؟

لم يكن نهر السين في تلك الليلة مجرد مسرحٍ للموت، بل شاهدًا على نهاية وهم “التحضر” الفرنسي. لقد انكشف الوجه الحقيقي للجمهورية الخامسة: وجهٌ عنصريٌّ، دمويٌّ، مشبعٌ بعقد التفوق الاستعماري الذي يرى في الجزائري إنسانًا من درجةٍ أدنى، أما الإعلام الفرنسي حينها، فقد شارك في الجريمة بصمته المريب وتواطئه الممنهج، إذ خُتمت الأفواه، ومنع النشر، وسُحقت الحقيقة تحت أقدام الرقابة. وحدهم الناجون حملوا الحقيقة في ذاكرتهم، وظلّوا يروونها كجرحٍ مفتوحٍ أمام أجيالٍ تتعلّم من النسيان كيف تُكرّر المأساة.

اليوم، بعد 64 عامًا على المجزرة، تحاول فرنسا أن تتصالح مع الماضي بالكلمات لا بالأفعال. تضع باقات الزهور على ضفاف السين، وتطلق التصريحات الدبلوماسية الباردة عن “الأسف” و”الذكرى”، لكنها ما زالت ترفض الاعتذار الرسمي للشعب الجزائري.

يخرج رئيسها ليقول: “كانت مأساة لا تُغتفر”، ثم يبتسم لليمين المتطرف الذي يرفض حتى كلمة “جريمة”. هذا اليمين الذي يحكم الوعي الفرنسي اليوم، لا يرى في الاستعمار خطيئة، بل “مهمة حضارية”، ويعتبر الجزائريين مجرد صفحةٍ هامشية في رواية فرنسا الكبرى. لكنّ التاريخ لا يُكتب بأقلام المنتصرين فقط، بل بدماء الضحايا أيضًا، ودماء نهر السين لن تجفّ مهما حاولت باريس أن تمحوها من الكتب والذاكرة.

إنّ جريمة 17 أكتوبر ليست حادثة من الماضي، بل جرحٌ مفتوح في الضمير الإنساني، لأنها تكشف بوضوح كيف يمكن للديمقراطيات الغربية أن تتحول إلى أنظمة قمعية حين يتعلق الأمر بالمستعمرين القدامى. فالمسألة ليست فقط في من أطلق الرصاص، بل في من شرّع له ذلك باسم القانون، ومن صمت عنه باسم “النظام العام”،  لقد أرادت فرنسا أن تصدّر للعالم صورة “الأمة المتحضرة”، لكنها في تلك الليلة صدّرت رائحة الموت والعنصرية التي لا تقل بشاعة عن أي نظامٍ استبداديٍّ عرفه القرن العشرين.

في الجزائر، ما تزال ذكرى 17 أكتوبر تُحيى كعيدٍ للكرامة ووفاءٍ للشهداء الذين ماتوا غرباء في أرضٍ ظنّوا أنها ستسمع صوتهم. تُقام الفعاليات والندوات، وتُرفع الأعلام، ويستعيد الناس صور أولئك الرجال الذين خرجوا في برد الخريف حاملين لافتات تطالب بالحرية، فاستقبلتهم باريس بالرصاص. لكنّ الدرس الأهم في هذه الذكرى هو أن الاستعمار لا يموت بمجرد رحيل الجنود، بل يستمر في الذاكرة وفي السلوك وفي الخطاب. واليوم، حين نسمع خطابات اليمين الفرنسي المتطرف، ندرك أن روح موريس بابون لم تُدفن بعد، بل تحوّلت إلى سياساتٍ جديدة ضد المهاجرين والعرب والمسلمين.

إنّ صعود اليمين الفرنسي ليس سوى استمرارٍ لتلك العقلية التي رمت الجزائريين في نهر السين، عقليةٍ تؤمن بأن فرنسا فوق التاريخ وفوق الأخلاق. هؤلاء الذين يرفعون اليوم شعار “فرنسا للأوروبيين” هم أحفاد أولئك الذين رفعوا بالأمس شعار “الجزائر فرنسية”، والفكر هو ذاته وإن اختلفت الشعارات. لذلك فإن معركة الذاكرة ليست فقط بين الجزائر وفرنسا، بل بين الحقيقة والزيف، بين العدالة والنفاق، بين أمةٍ تحترم ضحاياها وأمةٍ تبرر جلاديها.

لقد آن الأوان أن تُعامل فرنسا نفسها بالمعايير التي تفرضها على الآخرين. تطالب دول العالم بالاعتراف بجرائمهم التاريخية، لكنها ترفض الاعتراف بجرائمها في الجزائر، في قسنطينة وسطيف وقالمة والجزائر العاصمة وباريس نفسها.

أيّ ازدواجية هذه؟ هل دماء الجزائريين أقل إنسانية من دماء الأوروبيين؟ هل العدل يُقاس بلون البشرة أم بتاريخ الضحية؟ إنّ فرنسا التي تدّعي الدفاع عن حقوق الإنسان لا يمكنها أن تكون صادقة ما دامت تتهرب من الاعتذار عن جرائمها الاستعمارية التي أبادت ملايين الأبرياء، ونهبت الأرض، واغتالت الذاكرة.

ربما يظنّ الفرنسيون أن الزمن كفيل بمحو الجريمة، لكنّ ذاكرة الشعوب لا تشيخ. كل قطرة دمٍ سالت في نهر السين تحوّلت إلى شاهدٍ خالد على بشاعة الاستعمار، وكل صرخة ألمٍ صعدت في ليل باريس ما زالت تتردّد في ضمير الإنسانية. ليست المسألة في أن نُذكّر فرنسا بالماضي، بل في أن نُذكّرها بأنها ما زالت سجينة ذلك الماضي، لأنها لم تتحلّ بالشجاعة للاعتراف والاعتذار. الاعتراف لا يُقلّل من هيبة الدول، بل يمنحها شرف المصالحة مع نفسها، أما الإنكار فهو الوجه الآخر للجريمة.

اليوم، حين تمرّ باريس على ضفاف نهر السين، لا ترى سوى انعكاس الأبراج والأنوار، لكنها لا تسمع أنين الذين غُرقوا هناك. وحده التاريخ يسمع. وحدها الجزائر تتذكر. وحدها الأمهات اللواتي انتظرن أبناءهن العائدين من العمل ولم يعودوا، يعرفن أن النهر لم يكن فقط ماءً، بل قبرًا مفتوحًا على اللامنتهى. تلك الدماء التي امتزجت بمياه السين لم تكن مجرد دماء مهاجرين، بل دماء وطنٍ بأكمله كان يقاتل من أجل أن يُكتب له اسمٌ في سجلات الحرية.

فهل تنسى فرنسا دماء نهر السين؟ ربما تستطيع أن تنسى الأحداث في كتبها، لكنها لن تنسى وجوه الذين قتلتهم في صمت، ولن تنجو من لعنة الذاكرة التي تلاحقها كل أكتوبر. الجزائر لا تنسى، وشعبها لا يغفر لمن أراد أن يغرقه في الظلام. فالتاريخ لا يُكتب بالحبر فقط، بل بالدم أيضًا. ودماء 17 أكتوبر ستظل الحبر الذي لا يجفّ، يكتب على جدران باريس: هنا مات الجزائريون لأنهم أحبّوا الحرية.

شارك رأيك

التعليقات

لا تعليقات حتى الآن.

رأيك يهمنا. شارك أفكارك معنا.

barakanews

اقرأ المقالات البارزة من بريدك الإلكتروني مباشرةً


للتواصل معنا:


حقوق النشر 2025.جميع الحقوق محفوظة لصحيفة بركة نيوز.

تصميم وتطويرForTera Services

barakanews

اقرأ المقالات البارزة من بريدك الإلكتروني مباشرةً


للتواصل معنا:


حقوق النشر 2025.جميع الحقوق محفوظة لصحيفة بركة نيوز.

تصميم وتطويرForTera Services