53
0
غزة.. حين تُعيد سرد القيامة وتكسر سردية الموت بصوت الحكاية
.jpeg)
الحاج بن معمر
غزة ليست رقعةً على خريطة مشوشة؛ إنها ارتجافة الروح كلما تلاشت في النسيان، إنها وجعٌ لا يُشبه أي وجع، وإنها نبض الحكاية التي تأبى أن تُروى إلا بدماء الصابرين.
مجموعة "غزة.. مهد القيامة" لبختي ضيف الله ليست سرداً قصصياً بقدر ما هي نشيد متصل، وصلاة طويلة في محراب الجراح، يمسك الكاتب بالقلم كما يُمسك المناضل بندقيته، ويُطلق الكلمات لا لتُقال بل لتُبثّ كوصيةٍ في شوارع منهكة لا تزال تبحث عن حلمٍ يصلح للبناء.
منذ أول كلمة، يتضح أن النص لا يكتب غزة، بل يستعيدها من تحت الردم، يعيد لها صوتها، ووجهها، ودمعتها التي لا تذرف إلا حين يصمت الحجر.
في قصة "في الكهف"، يهدي الكاتب أحد أكثر مشاهد الحكاية وجعًا وبلاغة؛ الكلب الذي يبكي صامتًا.
"هذه أول مرة في حياته يرى فيها كلبه يبكي، دون أن يسمع له صوتا، ما أبلغ الصمت!"؛ هكذا تكون غزة، صوتها لا يُسمع لأنه أكبر من قدرة الآذان، ألمها لا يُروى لأنه أعمق من قدرة اللغة. الكلب الوفي، ذلك الذي يمثل غزة بصبرها وجوعها وولائها، ينهار أمام عدسةٍ تلتقط الرمزية على أكمل وجه؛ نحن أمام صمتٍ يفوق كل صراخٍ قيل.
الكلب يرفض أن يأكل من لحم صاحبه، لأنه نبت من "حلال" ولم "يغش في ألبانه وأجبانه البيضاء"، بلغةٍ تختزن القيَم حتى في وجبة جوع، وكأن الشرف لا يُباع، لا في الحرب ولا في الجوع.
ثم ينقلنا الكاتب إلى "انتظار الجحيم"، حيث يصبح المكان مسرحًا لجرافة لا تهدم البيوت فقط، بل تهدم الذاكرة الجماعية. الحاج صالح يقف أمام سيجارة المسعف، وأمام الجرافة، وأمام الجنود، وأمام الغدر، كما يقف الإنسان الفلسطيني أمام العالم: عاريًا، مجروحًا، لكنه غير منكسر. "إنها الجرافة.. إنها الجرافة.." يقولها لا ككلمة بل كصرخة سردية، كأيقونة موتٍ تكررت في وجدان غزة مراتٍ لا تُحصى. الجرافة هنا ليست آلة بل لعنة، وجهٌ مقدس "خلق للجحيم"، يلتقط أجساد الأطفال "كخشيبات دون أن يعدهم"، وتدفنهم الأرض التي طالما حملتهم أحياءً. يقول الكاتب: "تحضنهم الملائكة بسلام .. أحياء عند ربهم يُرزقون"، وبهذا ينقل الحكاية من الواقعي إلى القدسي، من الأرض إلى السماء، دون أن يفقد اتزان الفكرة ولا عمق الألم.
في "بيت في الجنة"، يحضر القائد يحيى السنوار على الأريكة المتعبة، كأنما البيت صار مرآةً للكرامة ومسرحًا للبطولة. "جلس على أريكتي متعبا من معركته الطويلة"، ثم يقول الراوي: "كأن بيتي فلسطين كلها"، فيكون البيت صورة مضخّمة للوطن، والأريكة ساحة معركة، والجدران شهودًا على صمودِ من قاوم. هذه الرمزية لا تُحسنها إلا غزة، التي تتحول فيها حتى النوافذ إلى "منصة للصيد من المسافة صفر"، لغة تستعيد العمق السياسي دون أن تفقد الشاعرية، كما لو كانت كل قطعة أثاث في البيت تُقاتل مع أصحابها.
ثم يقفز الكاتب إلى "أطول قفزة"، حيث الطفل يبحث عن بسكويته المفضل، ليجد طريقه إلى الشهادة، ويسجل وداعه بصوت شفاف: "كانت الشوارعُ حمراء، تلوّنتْ عجلتا دراجتي بلونها"، ثم "قفزتُ أنا بأعجوبة .. بعيدا .. بعيدا .. بعيدا جدا .."، أي نص هذا الذي يجعل القفزة ليست حركة جسدية بل استعارة للخلاص، طفولة تُذبح في صمت، وجدة تُنكّس رأسها على جدار الندم، حيث "الشوارعُ حمراء"، لا بالورود، بل بالدم الذي يُفرَش لكل شهيد.
ثم نصل إلى قصة "غزة.. مهد القيامة"، حيث الإعلامي العائد من الجزائر يكتب بصوت قادم من ثورة الصبر، "أنا في غزة الجريحة.. تعلمت من ثورة الجزائر العظيمة الصبر"، يتماهى هنا التاريخان؛ الجزائري والفلسطيني، وتذوب الحواجز بين الجغرافيا والروح. الثورة ليست بلدًا بل مزاجاً داخليًا، والقيامة لا تُعلن إلا حين تُمزق غزة صور الشك ويُعاد تعريف البطولة. في هذه القصة، تتجلى غزة كموقعٍ روحيٍ للبعث، كأرض ترفض أن تكون ضحية، وتُعلن، بصوت الشهادة، أنها "تُعيد"، لا "تُعيد فقط"، بل تُعيد القيامة، كما لو أن الموت فيها ليس نهاية بل بدءٌ جديد.
وفي "اليوم الموعود"، حين يهمس الطفل: "لم أقرأ على معلمي سورة البروج"، يُخفي جده الحقيقة أن المعلم استُشهد، يُخفيها ليحافظ على الضوء في قلب حفيده، حتى حين "تُغلق السماء بسرعة البرق بطائرات كالجراد"، وحتى حين تُرسل "رسائل زرقاء مكتوبة بالعربية" تدعو إلى الرحيل، يرفضون الرحيل، لأن "كيف نترك الأرض التي أحببناها وأحبتنا؟"، سؤال يُفترض أن يطرحه العالم، لكنه لا يفعل، فتبقى غزة وحدها تسأل وتُجيب، تُحب وتُقاتل، تُستشهد وتُبعث.
ثم في "آخر السيدات"، حين تصرخ العروس: "وامعتصماه!"، نعود إلى التاريخ ونُحاوره. لا أحد يسمع صرختها سوى القارئ، الذي يتحول فجأة من متلقٍ إلى شاهدٍ، وكأن النص يُحمّله مسؤوليةً أخلاقية. العروس تطعن جنديين قبل أن تُستشهد، وتنتقل من أن تكون منتظرة إلى أن تكون مقاتلة. الكاتب هنا لا يسرد البطولة، بل يمنحها شكلاً أنثوياً لم نره من قبل، ويُعيد كتابة المرأة كفاعل في المعركة، لا كرمزٍ صامت.
كل قصة كتلة واحدة، موجة لا تُوقفها فواصل ولا أقسام، وتكتب، لا على ورق، بل على جبين القارئ، وتُحوّل كل صفحة إلى موقع شهادة. المجموعة تُقرأ بلا فواصل لأنها كالقصف، تأتي مرة واحدة، وتترك الأثر الدائم. إنها ليست نصًا بل إنشادٌ، ليست أدبًا بل تراتيل القيامة القادمة من غزة، التي تمشي نحونا لا لتُستعطف بل لتُعلّمنا معنى الخلود، معنى المقاومة، ومعنى أن تكون الحياة حالة مستمرة من الولادة بعد كل موت.