366
0
جحيم الأسر في سجون الاحتلال: شهادات دامغة من غزة تكشف فصول الإبادة الصامتة
.jpeg)
بقلم: بن معمر الحاج عيسى
في ليل غزة، لا ينام الجرح، ولا يستكين الألم، ولا يغفو الموت المتربّص بأجساد أبنائها. فبينما يواصل الاحتلال الإسرائيلي حربه المفتوحة على كلّ ما هو فلسطيني، تتكشّف، واحدة تلو الأخرى، فصول مظلمة من جريمة مستمرة تُرتكب خلف الجدران الصامتة لمراكز الاعتقال، حيث يُسحق الإنسان الفلسطيني تحت وطأة التعذيب، والإذلال، والإخفاء القسري. التقرير الصادر عن هيئة شؤون الأسرى والمحررين، ونادي الأسير الفلسطيني، في 24 يوليو 2025، ليس مجرّد وثيقة حقوقية بل هو صرخة ضمير، وشهادة حية على استمرار الإبادة، لا في ميادين القصف وحدها، بل داخل أقبية الزنازين التي تحوّلت إلى مختبر للانتقام وتفريغ الحقد.
من معتقل النقب إلى عوفر، ومن المسكوبية إلى معسكر سديه تيمان، لا يجد الأسير الفلسطيني سوى الحرمان والإذلال، وسلسلة لا تنتهي من أساليب التعذيب الجسدي والنفسي، التي وثّقها المعتقلون أنفسهم في شهادات تقشعر لها الأبدان. أحد المعتقلين أُجبر على خلع ملابسه وشرب الخمر في معسكر قرب القدس، وآخر سُكب الماء المغلي على جسده في سجن النقب، وثالث هاجمه كلب بوليسي نهش قدمه، بينما أفاد معتقل آخر بتعرضه لضرب مبرّح أفقده الرؤية بعينه اليسرى وأحدث له صداعًا دائمًا واضطرابًا في التوازن. إنها ليست مشاهد من رواية خيالية مرعبة، بل واقع يومي يعيشه المعتقل الفلسطيني على يد سلطة لا تعبأ بأي قانون، ولا تعترف بأي قيمة إنسانية.
ليس الألم في التعذيب وحده، بل في الحرب النفسية التي يمارسها السجّانون بدم بارد. أحد المعتقلين أُبلغ من قبل المحقق بأن عائلته أُبيدت عن بكرة أبيها، ما دفعه لمحاولة الانتحار داخل الزنزانة، قبل أن يكتشف لاحقًا أن عائلته بخير. تلك اللحظة الفاصلة بين الجنون واليأس لم تكن صدفة، بل جزءًا من أساليب ممنهجة تسعى إلى تحطيم النفس قبل الجسد، وتفكيك ما تبقى من مقاومة داخل القلب الفلسطيني الأسير.
تؤكد الشهادات أن المعتقلين يُجبرون على العيش في خيام مكتظة وظروف بيئية قاسية، مع حرمان متعمّد من الغذاء والعلاج، وانتشار أمراض مثل الجرب، دون أدنى محاولة للعلاج أو الوقاية. يجري عزل المعتقلين في ظروف انفرادية، ويتعرّضون يوميًا للتفتيش العنيف والإذلال المتعمّد. إنها عملية سحق بطيئة للروح، لا تترك متّسعًا إلا للكوابيس.
ورغم هول الشهادات، فإن ما سُجّل لا يُعدّ سوى جزء ضئيل من الجريمة الكبرى التي تتجاوز حدود المعقول. آلاف المعتقلين من غزة، أُخضعوا لقانون "المقاتل غير الشرعي"، أداة الاحتلال لتقنين الإبادة، خارج أي إطار قانوني دولي. هذا القانون لا يمنح المعتقل حتى الحد الأدنى من الحقوق الإنسانية، بل يُحوّله إلى رقم داخل معسكر، وهدف مشروع للتعذيب والابتزاز.
منذ بداية الحرب، أقام الاحتلال معسكرات جديدة خصيصًا لاحتجاز معتقلي غزة، مثل سديه تيمان، عناتوت، نفتالي، وقسم ركيفت تحت سجن الرملة، ليضافوا إلى سلسلة الموت البطيء في النقب وعوفر. ومع مرور كل يوم، يزداد عدد الضحايا الذين قضوا تحت التعذيب، أو لا يزال مصيرهم مجهولًا في دوامة الإخفاء القسري، في ظل صمتٍ دوليٍّ مريب، وتواطؤ منظومات حقوقية بات وجودها موضع شكّ.
لقد أصبح السؤال عن جدوى المؤسسات الحقوقية أكثر من مشروع، في ظل هذا الانهيار الأخلاقي الكوني أمام جرائم الاحتلال. فماذا يعني أن تصدر التقارير، وتُوثّق الشهادات، وتُفضَح الانتهاكات، إذا كان الجلاد لا يُحاسب، والضحية لا تُنقَذ؟ متى يصبح الألم الفلسطيني جديرًا بأن يُسمَع؟ ومتى تنكسر حالة الاستثناء التي يحظى بها الاحتلال فوق القانون، وفوق المحاسبة، وفوق كل منظومة إنسانية؟
هذا التقرير ليس أرقامًا جافة، ولا مجرد رصد قانوني، بل هو انعكاس دامٍ لواقع لا يحتمل التأجيل. إنه وثيقة إدانة في سجلّ الإنسانية، وسِفر من الألم الصارخ الذي يُفترض أن يحرك العالم من سباته. لكن حتى حين تنهض الضمائر، سيكون هناك المئات قد سُحقوا بصمت، وسيظل الزمن عاجزًا عن التئام جراحهم.
إن جريمة الإبادة بحق المعتقلين ليست فصلًا منفصلًا عن الحرب، بل جزء أصيل من مشروع إبادة متكامل. والوقوف عند حدود الصمت لم يعد خيارًا، لأن كل لحظة تأخر، تساوي حياة إنسان تُنتزع منه، في الظلام، دون شهود، ولا رحمة، ولا عدالة.