98
0
غار أوشطوح… حين أحرقت فرنسا ذاكرة الجبل بالنابالم والغازات السامة
تحقيق خاص بمناسبة الذكرى الـ71 لإندلاع الثورة التحريرية.

على بعد كيلومترات من بلدية تاكسلانت غرب ولاية باتنة، يقف غار أوشطوح صامتاً كقبر جماعي مفتوح على الذاكرة، تختنق بين صخوره رائحة الرماد والموت.
ضياء الدين سعداوي
ففي ربيع 1959، ارتكب الجيش الفرنسي واحدة من أبشع جرائمه خلال الثورة التحريرية، حين أباد 118 جزائريا أعزل من عرش أولاد سلطان و أولاد فاطمة بالغازات السامة وقنابل النابالم، في محرقة ما تزال إلى اليوم وصمة عار في تاريخ فرنسا الإستعماري.

نار في رمضان
كان ذلك في اليوم السابع من شهر رمضان لعام 1959. عشرات العائلات من القرى المجاورة احتمت بالمغارة هرباً من عمليات التمشيط التي شنها الجيش الفرنسي على جبال الرفاعة، معقل الثوار. داخل الغار، أطفال ونساء وشيوخ ينتظرون انقضاء الحملة، غير مدركين أن المكان سيتحول إلى محرقة جماعية.
في الخارج، كانت القوات الفرنسية مدعمة بالغطاء الجوي من الحلف الأطلسي تطوق المكان، وتستعد لتنفيذ عملية أطلقت عليها اسم “الشرارة”. وعندما أطلق أحد الفدائيين رصاصة تحذير دفاعا عن من في الداخل، انهالت القنابل على فوهة الغار. وفي اليوم التالي، ألقيت أطنان من المتفجرات – قدرت بثلاثة قناطير من مادة “تيانتي” – لتدفن الأحياء تحت صخورهم.

شهادة من قلب الجحيم
يستعيد عمار عقون، أحد الناجين القلائل، تفاصيل تلك الليلة في أحد اللقاءات مع الصحافة: “كنا نعتقد أن القصف سيتوقف مع الفجر، لكنهم بدأوا بإطلاق الغازات السامة، لم نعد نتنفس، سقط العشرات وهم يحاولون الزحف نحو مدخل الغار، النار كانت تلاحقنا حتى في الظلام رأيت أخي يموت ورأسه على ركبتي.”
رفيقه موسى لحول، الذي كان في السادسة عشرة من عمره آنذاك، يضيف في ذات اللقاء : “رأيت الفرنسيين يربطون أحد الشباب، مسعود مزغيش، بقنبلة في ظهره ويطلبون منه الدخول إلى الغار. وعندما رفضنا الخروج، فجروه عن بعد. تطاير جسده أشلاءا أمام أعيننا.”
يضيف موسى "تلك كانت البداية، بعدها غمرت المغارة أدخنة النابالم، وساد صمت ثقيل لا يقطعه إلا صوت الإحتراق. “لم يكن في الغار فدائي واحد”، يقول موسى، “كلهم مدنيون نساء وأطفال ورجال مسالمون.”

قنبلة أولى من وهران
يؤكد مؤرخون أن الطيران الفرنسي استعمل في هذه العملية أول قنبلة نابالم ألقيت على الجزائر، نقلت من قاعدة وهران الجوية بواسطة طائرة “بي-29”. وفي شهادة ضابط فرنسي وردت في وثائقي أنجزه ابنه “ريجيس ميشال”، قال: “شاهدنا بأعيننا أجسادا تشتعل وتهرب ، نار النابالم لا ترحم أحدا.”
منذ ذلك اليوم ظل وادي تارشوين تفوح منه رائحة الغاز، وتحتفظ صخوره بأثر الإحتراق، كأنها توثق بصمة الجريمة التي حاول المستعمر طمسها.
يقول موسى لحول "في عمق المغارة، سطعت لحظة إنسانية وسط الجحيم. يضيف بحسرة :“كان معنا رجل يدعى حميدة بن تيبة، لم يصب بشيء، لكنه رأى الجثث المكدسة وقال: لن أخرج من هنا، سأموت معهم. زحف إلى الداخل حتى اختفى بين الموتى.”
هذه القصة التي تناقلها الناجون تحولت إلى رمز للتحدي والكرامة في ذاكرة الأهالي، ورددتها مواويل شاوية حزينة: “أ يا الغار أوشطوح، أقوي مية ذ الروح...” (يا غار أوشطوح الذي أخذ مئة روح)
إبادة لعائلات بأكملها
بعد توقف القصف، دخل الجنود الفرنسيون إلى الغار. لم يجدوا مقاتلين، بل جثثا متفحمة. يقول أحد الشهود إنهم “أغلقوا المغارة بالقنابل مرة أخرى كي يخفوا آثار الجريمة”.
النتيجة كانت عائلات أُبيدت بالكامل: عائلة مزغيش فقدت 14 فردا، بوضياف 9، فروج 8، والعباسي 7.
وبقي نحو 20 شهيدا مطمورين داخل الصخور، لم تنتشل رفاتهم إلا بعد عقد ونصف، وأعيد دفنهم في مقبرة الشهداء بـ”تينيباوين”.
جريمة حرب بلا اعتراف
رغم مرور 66 عامًا على المجزرة، و71 عامًا على إندلاع الثورة، ما تزال فرنسا ترفض الإعتراف الرسمي بهذه الجريمة المصنفة ضمن “جرائم الحرب ضد الإنسانية”.
يقول المؤرخ محمد العيد غزلان: “العملية كانت إبادة جماعية موجهة ضد مدنيين، استخدمت فيها أسلحة محرمة دوليًا، وهو ما يجعلها قضية قانونية وإنسانية لا تسقط بالتقادم.”
بينما تكتفي باريس بتصريحات سياسية عن “المصالحة التاريخية”، تواصل تجاهل ملفات الذاكرة الكبرى: مجازر 8 ماي 1945، محرقة غار أوشطوح، والتجارب النووية بالصحراء الجزائرية.

ذاكرة الحجر والبشر
اليوم، تحاول الجزائر صون الذاكرة الوطنية. فقد خصصت وزارة المجاهدين وذوي الحقوق غلافا ماليا لإعادة تهيئة النصب التذكاري في تارشوين، وتوثيق أسماء الشهداء على جدارية جديدة، وفتح مسلك نحو الغار لزيارته كمعلم تاريخي.
لكن بالنسبة للناجين، الجرح لم يندمل. يقول موسى لحول بأسى:“نحن الذين نجونا لا نعرف في أي خانة نصنف. لم نحصل على أي اعتراف ولا حقوق. نعيش بين الموتى ونتنفس ذاكرتهم.”
وصمة لا تمحى
غار أوشطوح ليس فقط شاهدًا على جريمة منسية، بل مرآة تكشف وجه الاستعمار الحقيقي، وتذكير دائم بأن التاريخ لا يكتب بالمدافع وحدها، بل بأصوات الضحايا أيضًا.
فبين صخور الجبل الصامتة، لا تزال كلماتهم تهمس: “لقد قتلونا بالنار، لكنهم لم يقتلوا الحقيقة.”
محرقة غار أوشطوح تظل وثيقة دامغة على وحشية الاستعمار الفرنسي، ونداء مفتوح أمام العالم من أجل اعتراف وعدالة تاريخية. فالتاريخ، كما قال أحد الناجين، “لا يدفن بالمتفجرات، بل يروى جيلاً بعد جيل حتى لا يعاد.”

