1433
0
بين وفرة الإنتاج وضياع الجهد..فلاحوا عين جاسر يصرخون من أزمة تسويق البطاطا

في سهول عين جاسر الخصبة التي طالما عرفت بأنها "سلة غذاء" لولاية باتنة وما جاورها، تتكرر معاناة الفلاحين مع محصول البطاطا ، هذا الموسم جاء وفيرًا من حيث الكم و النوع لكنه أثقل كاهل المزارعين بخسائر فادحة بسبب تعثر التسويق وغياب آليات ناجعة للتخزين.
استطلاع:ضياء الدين سعداوي
مشاهد البطاطا المتكدسة في الحقول والفلاحون الذين يتركون محصول البطاطا في التراب مخافة الخسارة، تختصر مأساة قطاع فلاحي يلهث وراء الأمن الغذائي بينما تتسرب ثماره من بين الأيدي إلى التراب.
على أطراف بلدية عين جاسر يقف أبو الحسن بروال ممثل الإتحادالوطني للفلاحين الجزائريين بدائرة عين جاسر، وقد بدا التعب على وجهه من كثرة الجولات بين الحقول ومراكز التجميع من عين جاسر إلى الحاسي تامهريت و المناطق المجاورة ، يروي بصوت تشوبه الخيبة: "نحن كفلاحين منتجين لشعبة البطاطا، نوجه نداءنا إلى رئيس الجمهورية للتكفل العاجل بمشكل التسويق، محاصيلنا مهددة بالتلف تحت الأرض والخسائر كبيرة ، لقد شاهدنا كيف تدخلت مؤسسة "ساربا" في ولايات أخرى مثل الوادي و الغرب الجزائري لشراء المنتوج و امتصاص الفائض، وهو ما نطالب به في ولايتنا أيضًا، نريد فقط أن نواكب سياسة الدولة في تحقيق الأمن الغذائي، لكن الظروف الحالية تدفع الكثير من الفلاحين للتفكير في هجر هذه الشعبة."
كلماته تختزل إحساسًا عامًا لدى عشرات الفلاحين الذين إلتقاهم الموقع الإخباري " بركة نيوز" في عين جاسر ، بعضهم قرر التوقف عن الجني مؤقتًا وترك المحصول في باطن الأرض على أمل تحسن الأسعار أو تدخل الدولة ، غير أن هذا التأجيل سرعان ما يتحول إلى مأساة أكبر حيث تبدأ البطاطا بالتلف تحت الأرض.
من الإنتاج إلى الخسارة
المفارقة أن هذا الموسم شهد توسعًا ملحوظًا في المساحات المزروعة، يؤكد رئيس القسم الفرعي الفلاحي لدائرة عين جاسر، علي بلحصير، أن "الفلاحين تمكنوا من زراعة أكثر من 200 هكتار هذا الموسم، وهناك تحضير جاد للوصول إلى 100 هكتار أخرى خارج الموسم".
لكن هذه الأرقام المطمئنة تتحول إلى مصدر قلق عند الحديث عن التسويق، يوضح بلحصير: "الدولة وفرت وسائل الدعم من تجهيزات السقي إلى المناقب والأحواض، وحتى الكهرباء الفلاحية التي استفاد منها أزيد من 180 فلاحًا بعدما كانوا يعتمدون على مولدات تستهلك مازوتًا بكلفة عالية ، لكن تبقى مشكلة التسويق والتخزين قائمة، الدولة واعية بالوضع وهناك برامج قادمة لإنشاء غرف تبريد مدعمة وهي الحل الأمثل لحماية المنتوج من التلف."
ومع غياب غرف التبريد في عين جاسر و في ولاية باتنة عموماً ، يجد الفلاحون أنفسهم أمام خيارين أحلاهما مر ، إما بيع البطاطا بسعر زهيد لا يغطي تكاليف الإنتاج أو تركها عرضة للتلف تحت الأرض.
مشاهد من الحقول
في جولة عبر الحقول يمكن للزائر أن يلحظ مشاهد مقلقة، أكوام البطاطا مكدسة على حواف الأراضي وأخرى تركت في باطن التربة بعدما توقف العمال عن الجني، الفلاح رفيق العشي، وهو شاب في الثلاثينيات، يقول وهو يخرج بعض الدرنات بيديه: "هذه البطاطا بدأت تتلف بالفعل نحن نعمل منذ شهور، نصرف على البذور والأسمدة واليد العاملة، ثم في النهاية نجد أنفسنا عاجزين عن تسويق المحصول. السوق المحلية لا تستوعب هذه الكميات ، عزوف كبير من التجار لشراء المحصول و هم يفرضون علينا أسعارًا متدنية تجعلنا نخسر أكثر مما نربح."
إلى جانبه يضيف علي بروال فلاح آخر بخبرة سنوات طويلة: "لو كانت هناك غرف تبريد حقيقية ومدعمة لما عشنا هذه الأزمة كل موسم ، نحن نحتاج إلى حل جذري لا مجرد مسكنات مؤقتة."
تكاليف تثقل الكاهل
الأزمة الحالية لا تتعلق بالتسويق فقط بل بتكاليف الإنتاج التي تضاعفت في السنوات الأخيرة، الفلاحون يتحدثون عن أسعار البذور المستوردة التي التهمت ميزانياتهم وعن الأسمدة التي تضاعف ثمنها في السوق ، يضاف إلى ذلك كلفة اليد العاملة الموسمية والنقل الذي يزداد صعوبة في ظل غياب مراكز جمع قريبة.
يقول ياسين العشي أحد المزارعين : "نحن نصرف الملايين على الهكتار الواحد، وفي النهاية نبيع المحصول بثمن بخس ، يعرض علينا التجار اليوم اسعارا لا تتجاوز 23 دج للكيلوغرام، بينما لا يكفي هذا حتى لتغطية المصاريف."
الدولة بين الدعم والإصلاح
من جانبها تعترف السلطات المحلية بحجم المشكلة ، علي بلحصير، رئيس القسم الفرعي الفلاحي، يرى أن الحل يكمن في "تعزيز منظومة التخزين أولًا، وربطها بمؤسسات مثل "ساربا" التي يمكن أن تتدخل لإمتصاص الفائض" كما يشير إلى ضرورة "تنظيم السوق وضبط الأسعار بما يحمي المنتج والمستهلك معًا".
وزارة الفلاحة بدورها أطلقت برامج لدعم غرف التبريد عبر التراب الوطني، لكن الكثير منها لا يزال حبرًا على ورق أو لم يُستكمل بعد ، ويخشى الفلاحون أن يضيع موسمهم الحالي قبل أن تصل تلك المشاريع إلى عين جاسر.
مستقبل مهدد
أمام هذه الظروف بدأ بعض الفلاحين يتحدثون صراحة عن نيتهم في ترك شعبة البطاطا نهائيًا والبحث عن زراعات أخرى أقل مخاطرة يقول أبو الحسن بروال: "الكثير من الفلاحين لم يعودوا متحمسين للبطاطا.
الخسائر المتكررة تدفعهم للتفكير في بدائل، وإذا استمر الحال على هذا المنوال فإننا قد نشهد تراجعًا خطيرًا في الإنتاج مستقبلاً."
هذا التراجع إن حدث سيكون له أثر مباشر على الأمن الغذائي الوطني خاصة وأن البطاطا تعد من المواد الأساسية في غذاء الجزائريين.
دعوات إلى تدخل عاجل
المشهد في دوائر عين جاسر ، تيمڨاد و اولاد سلام يضع صناع القرار أمام مسؤولية ملحة، الفلاحون يطالبون بتدخل عاجل على غرار ما حدث في ولايات أخرى، حيث تدخلت مؤسسة ساربا لشراء المنتوج وامتصاص الفائض، كما يلحون على ضرورة الإسراع في إنجاز غرف تبريد مدعمة تسمح بتخزين المحصول في أوقات الوفرة ليُطرح لاحقًا في أوقات الندرة بأسعار معقولة.
بين وفرة الإنتاج وضياع الجهد يعيش فلاحو عين جاسر و باقي منتجي البطاطا بولاية باتنة أزمة حقيقية تتكرر كل موسم وكأنها قدر لا فكاك منه ، حقول البطاطا هنا ليست مجرد أرض تنبت غذاءً، بل هي مرآة لسياسات زراعية تحتاج إلى مراجعة عميقة، وإذا لم يتم إيجاد حلول عملية وسريعة، فإن ما يزرع بعرق الفلاحين سيظل يتسرب إلى التراب بدل أن يصل إلى موائد الجزائريين.