317
0
ندوة فكرية تطرح سبل صون الموروث الثقافي وتبليغه للأجيال

احتضنت المكتبة الرئيسية للمطالعة العمومية بالعاصمة، اليوم السبت، ندوة فكرية حول "الكتاب والتراث"، بمشاركة نخبة من الأساتذة الجامعيين والباحثين والمهتمين بالشأن الثقافي، وذلك في إطار برنامج ثقافي تشرف عليه وزارة الثقافة والفنون.
هارون الرشيد بن حليمة
الندوة عرفت سلسلة من المداخلات العلمية التي أضفت ثراءً وتنوعاً على النقاش.
التراث بين التوثيق والتوريث
افتتحت الأستاذة سليمة مليزي اعلامية ومديرة دار للنشر وناشطة في مجال التراث باب المداخلات، حيث ركزت على التراث المرتبط باللباس النسائي الجزائري باعتباره ذاكرة متجسدة وهوية بصرية لا تقل أهمية عن المخطوطات أو الآثار.
وأوضحت أنّ القفطان، الملاية، والملابس النسائية التقليدية ليست مجرد أقمشة أو موضة عابرة، بل تحمل قصصاً ومعاني اجتماعية عميقة ارتبطت بالمرأة الجزائرية عبر العصور.
ودعت إلى ضرورة توثيق هذا التراث وحمايته من التلاشي في ظل الغزو الثقافي، مؤكدة أنّ المحافظة عليه تعني المحافظة على صورة الجزائر في بعدها الجمالي والرمزي.
ومن جهتها وسعت هجيرة تميليكشت استاذة بمعهد الاثار جامعة الجزائر 2، النقاش حول اللباس التقليدي بكل أشكاله وأبعاده، من القفطان والبرنوس والملحفة والقاشبية إلى البرصور، مبرزة كيف ظل هذا الموروث صامداً أمام محاولات الطمس خلال الاستعمار الفرنسي، وكيف حافظ الجزائريون على خصوصيتهم من خلال التمسك بهذه الألبسة في المناسبات والأعياد، وشددت على أنّ هذا التراث الملبسي ليس مجرد لباس، بل هو علامة على مقاومة ثقافية وتاريخية يجب تثمينها وتوثيقها.
أما الأستاذ قريق أحسن باحث في علم الفلك والتراث الثقافي فقد قدّم مداخلة ثرية حول التراث الكتابي واللفظي والفلكي، مسلطاً الضوء على الأمثال الشعبية، الحكايات، والتسميات التقليدية التي تحمل في طياتها حكمة الأجداد وتجاربهم. وأوضح أنّ هذه المرويات ليست مجرد ألفاظ أو عبارات، بل تشكل مادة غنية للدراسات الأكاديمية في اللسانيات والأنثروبولوجيا، داعياً إلى ضرورة إنشاء مشاريع بحثية خاصة لجمعها وتصنيفها وحفظها قبل أن تندثر مع رحيل الأجيال الحاملة لها.
واختتم الدكتور عبد الحميد بورايو باحث مختص في الثقافة الشعبية المداخلات برؤية تحليلية معمقة حول الثقافة الشعبية وعلاقتها بالصناعة المحلية.
حيث بيّن أنّ الحرف اليدوية والصناعات التقليدية ليست مجرد نشاط اقتصادي، بل تمثل استمرارية للتراث الشعبي وتجسيداً عملياً له في الحياة اليومية.
وأكد أنّ الحفاظ على هذا التراث الحرفي وتطويره يفتح آفاقاً للتنمية الثقافية والاقتصادية معاً، مشيراً إلى أنّ الثقافة الشعبية ليست ماضياً منتهياً، بل رصيد حي يمكن أن يتحول إلى قوة إنتاجية ومصدر إلهام للأجيال.
نقاش مفتوح وأسئلة الجمهور
بعد العروض النظرية، فُتح المجال للنقاش الذي عرف تفاعلاً كبيراً من قبل الحضور. فقد تساءل بعضهم عن كيفية الجمع بين التوثيق الأكاديمي للتراث وتبسيطه لعامة الناس، فيما طرح آخرون قضية تغير الاجيال وترك الموروث الثقافي
كما أثيرت إشكالية الاستعمار الثقافي وخطر اندثار الهوية، حيث شدّد المتدخلون على أنّ صون التراث لا يقتصر على جمع الموروث بل يتعداه إلى إعادة قراءته وإدماجه في الحياة اليومية للأجيال الجديدة.
التراث كرافعة للتنمية
الندوة لم تكن مناسبة أكاديمية فقط، بل تحوّلت إلى فضاء للتفكير في علاقة التراث بالتنمية الاقتصادية والسياحية. فقد أشار بعض المتدخلين إلى أنّ تثمين التراث يمكن أن يتحوّل إلى مصدر دخل وواجهة سياحية للبلاد، إذا ما تم الاستثمار فيه بذكاء، مع استحضار تجارب دولية في هذا المجال.
رسالة إلى الأجيال
في ختام اللقاء، أجمع المشاركون على أنّ الموروث الجزائري ليس ملكاً للأجيال السابقة فقط، بل هو أمانة في أعناق الجيل الحاضر وهدية للأجيال المقبلة. وتم التأكيد على أنّ عملية التوثيق لا تعني تجميد التراث، بل إعادة إحيائه وتكييفه مع متطلبات العصر.
نحو لقاءات مستقبلية
وأكدت إدارة المكتبة أنّ هذه الندوة ليست سوى محطة أولى ضمن برنامج متكامل يهدف إلى تثمين التراث الجزائري بكل أبعاده، مع وعد بتنظيم لقاءات مماثلة تجمع الباحثين والجمهور في فضاءات النقاش العلمي والثقافي
الندوة التي احتضنتها المكتبة الرئيسية بالعاصمة لم تكن مجرد تظاهرة فكرية عابرة، بل مثلت رسالة واضحة مفادها أنّ الحفاظ على التراث هو حفاظ على الذات والهوية، وأنّ التوثيق العلمي مسؤولية مشتركة بين الجامعة، الإعلام، والمجتمع، من أجل توريث أجيالنا ذاكرة حيّة تحفظ كيان الأمة وتؤسس لمستقبل متوازن بين الأصالة والحداثة.