212

0

الثورة التي أشعلت الضمير العربي:

كيف تحوّلت الجزائر إلى جبهة الوعي في الصحافة المصرية

 بقلم: بن معمر الحاج عيسى 

 

في زمنٍ كانت الثورة تصنع التاريخ بالبارود والدم، كانت الكلمة تصنعه بالحبر والوعي. هكذا كانت الجزائر، وهكذا كتبت القاهرة ثورتها.

الكتاب العربي الجديد «الثورة الجزائرية في الصحافة المصرية (1954–1962)»، الصادر سنة 2024، يعيد فتح صفحاتٍ غارقة في الذاكرة العربية المشتركة، ليكشف كيف تحوّلت الثورة الجزائرية من انتفاضة ضد الاستعمار إلى إشعاعٍ عربي وعالمي حمل راية الحرية وأعاد تعريف معنى النضال في القرن العشرين.

 

لم يكن هذا العمل مجرّد دراسة أكاديمية في أرشيف الصحف، بل رحلة في ذاكرة الأمة العربية، تستحضر كيف كانت القاهرة تكتب الجزائر لا كخبرٍ خارجي، بل كقضية داخلية من لحمها ووجدانها. في كل عدد من الأهرام والأخبار والجمهورية، كانت الثورة الجزائرية حاضرة كأنها تجري في شوارع القاهرة نفسها. كانت مصر ترى في الجزائر صورتها الأخرى، وكان الصحفيون المصريون يدركون أن معركة الجزائر هي امتداد لمعركة العرب جميعاً ضد الاستعمار.

 

من خلال تحليلٍ دقيق لعشرات المقالات والتغطيات التي رافقت سنوات الثورة، يقدّم الكتاب صورة فريدة لتلك المرحلة. فقد كانت الصحافة المصرية، كما يؤكد المؤلف، ليست ناقلاً للحدث بل صانعاً للوعي. واجهت آلة الدعاية الفرنسية التي وصفت الثوار بـ"الإرهابيين" بمقالاتٍ تنضح بالكرامة والوجدان العربي، تُبرز بطولات المجاهدين وتكشف المجازر الفرنسية التي حاولت باريس طمسها. لم تكن المقالات المصرية حيادية، بل كانت تعبّر عن وجدان الأمة في لحظة وجودية فاصلة.

تقول إحدى الافتتاحيات التي يوثّقها الكتاب: "الجزائر ليست بعيدة عنّا، إنّها جرحنا العربي المفتوح، والحرية فيها قدرنا جميعاً."

 

يُظهر الكتاب أن الإعلام المصري تبنّى منذ اندلاع الثورة في نوفمبر 1954 موقفاً مبدئياً لا لبس فيه: تأييد مطلق للثورة الجزائرية باعتبارها «قضية العرب الأولى بعد فلسطين». فقد خصّصت الصحف الكبرى مساحاتٍ واسعة لتغطية العمليات الفدائية، ونشرت حواراتٍ مع مناضلين جزائريين، وافتتاحياتٍ تفضح جرائم الاحتلال الفرنسي، مستخدمة الصور المهرّبة من الجبال لكشف الوجه الحقيقي للاستعمار أمام الرأي العام العالمي.

بهذا المعنى، تحوّلت الصحافة المصرية إلى جبهة مقاومة إعلامية موازية لجبهة القتال، حيث أصبحت الكلمة سلاحاً، والصورة رصاصة، والعنوان موقفاً وطنياً لا يقلّ شجاعة عن الفعل الثوري في الميدان.

 

ويشير المؤلف إلى أنّ هذا التلاحم لم يكن عفوياً، بل جزءاً من رؤية سياسية متكاملة تبنّاها جمال عبد الناصر الذي جعل من الإعلام صوت الأمة وقوة التعبئة ضد الاستعمار الغربي. كانت الثورة الجزائرية، كما يصوّرها الكتاب، مرآة لمشروع القومية العربية في أوج تفتّحه، ومختبرًا للوحدة في زمن التجزئة. فقد تحوّلت القاهرة إلى منبرٍ عالمي للثورة، تستقبل قادتها وتفتح صفحاتها لمثقفي الجزائر، وتُطلق من خلالها رسائل إلى إفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية بأنّ التحرّر العربي ليس حدثاً محلياً بل مشروعاً إنسانياً.

 

من الصفحات المؤثرة في الكتاب شهادات لصحفيين مصريين عاشوا تلك التجربة عن قرب، تحدثوا عن مغامرات المراسلين الذين خاطروا بحياتهم لنقل الحقيقة من الحدود الجزائرية–التونسية، وعن تقارير كانت تُهرّب في ظروفٍ قاسية لتصل إلى القاهرة وتنشر في الصفحة الأولى رغم الرقابة الفرنسية. يقول أحدهم في شهادة وردت بالكتاب: "كنّا نكتب ونحن نعلم أن كل حرفٍ هو طلقٌ في معركة الوعي."

ويضيف المؤلف أن تلك الشجاعة لم تكن مجرد بطولة شخصية، بل كانت تجسيداً لفكرة الصحافة المقاومة، التي ترى في الحبر استمراراً للبندقية.

 

ويؤكد الكتاب أن الدور المصري الإعلامي في نصرة الثورة الجزائرية تجاوز الجانب المهني إلى البعد الأخلاقي والرمزي. فقد كان الإعلام المصري يُخاطب الرأي العام الدولي بلغته، فيوجّه رسائل بالإنجليزية والفرنسية إلى الصحف الغربية لفضح جرائم فرنسا وتفنيد دعايتها. وبهذا تحوّلت القاهرة إلى عاصمة إعلامية للثورات، ومنها خرجت البيانات الأولى التي عرّفت العالم بالثورة الجزائرية باعتبارها “ثورة كرامة وليست حرب انفصال”.

 

يستشهد الكتاب بعبارات مأخوذة من أرشيف تلك الحقبة مثل:

 

> “الجزائر تنزف… والعرب معها.”

“فرنسا تقصف، لكن الحرية تولد من الرماد.”

“نوفمبر العربي الكبير يبدأ من الجزائر.”

 

 

 

هذه اللغة الحارّة لم تكن مجرد أسلوب بل كانت إعلان انتماء. لقد كانت القاهرة تكتب وهي تشارك، لا تراقب. ومن خلال هذا التفاعل ولِد ما يسميه المؤلف “جبهة الوعي العربي”، وهي الجبهة التي كسرت جدار الصمت الغربي وقدّمت سردية بديلة عن سردية الاستعمار.

 

ويرى الكاتب أن الصحافة المصرية نجحت في أن تجعل من الثورة الجزائرية رمزاً للكرامة العربية الجماعية، وأنها لعبت دوراً حاسماً في توحيد الرأي العام العربي خلفها، حتى أصبحت الجزائر آنذاك نقطة الضوء التي أعادت الثقة للأمة بعد نكبة فلسطين.

ومن بين أبرز خلاصات الكتاب أنّ الصحافة في تلك المرحلة لم تكن تلهث وراء “السبق الصحفي”، بل كانت تبحث عن “الموقف الأخلاقي”، وأن الصحفي العربي أدرك يومها أنّ الكلمة مسؤولية وطنية، وليست مجرد مهنة.

 

وفي قراءته الختامية، يدعو الكتاب الإعلام العربي المعاصر إلى استعادة تلك الروح، لأنّ المعارك الحديثة — وإن تغيّرت أدواتها — لا تزال معارك وعي ورواية. فالثورة الجزائرية لم تكن فقط حرب تحرير، بل تجربة في صناعة المعنى والكرامة عبر الإعلام. واليوم، حين تتراجع القيم في فضاءات الإعلام التجاري والسياسي، يبدو درس الصحافة المصرية في خمسينيات القرن الماضي أكثر إلحاحاً من أي وقتٍ مضى.

 

إنّ «الثورة الجزائرية في الصحافة المصرية (1954–1962)» ليس مجرد توثيقٍ لمرحلة مضت، بل هو شهادة حيّة على كيف يمكن للكلمة أن تصبح سلاحاً، وللحبر أن يكون بديلاً عن البارود. لقد كتبت القاهرة نضال الجزائر بحبرٍ من وعيٍ وعروبةٍ وإيمانٍ مشترك، فأعادت صياغة دور الصحافة كضميرٍ للأمة لا صدى للسلطة.

 

وهكذا، تُثبت قراءة هذا الكتاب أن الثورة الجزائرية لم تكن فقط ثورة وطن، بل ثورة أمة كاملة استيقظت على وقع صوتها في القاهرة. ومن هناك، من بين أعمدة الصحف القديمة وصفحاتها الصفراء، خرجت أعظم دروس الإعلام العربي:

أنّ الكلمة الحرّة لا تُكتب لتُقرأ، بل لتُقاتل.

شارك رأيك

التعليقات

لا تعليقات حتى الآن.

رأيك يهمنا. شارك أفكارك معنا.

barakanews

اقرأ المقالات البارزة من بريدك الإلكتروني مباشرةً


للتواصل معنا:


حقوق النشر 2025.جميع الحقوق محفوظة لصحيفة بركة نيوز.

تصميم وتطويرForTera Services

barakanews

اقرأ المقالات البارزة من بريدك الإلكتروني مباشرةً


للتواصل معنا:


حقوق النشر 2025.جميع الحقوق محفوظة لصحيفة بركة نيوز.

تصميم وتطويرForTera Services