172

0

التفاوض على أعتاب الجحيم: برؤية جاري أبو حسن

 

بقلم/ حلمي أبو طه

في اليوم الثاني من رحلة النزوح السابع، اجتاحني حنين قديم لزيارة جاري أبو حسن وأبناء عمومته، بعد انقطاع دام أكثر من عشرة أشهر. هذه المرة لم تفصل بين خيامنا سوى ميلين، فكانت الفرصة سانحة للقاء طال انتظاره. فأبو حسن الرجل الأنيق رغم قسوة الظروف، الذي لا يعرف الكلل ولا يمل من مد يد العون لمن يحتاجها. صاحب الطلة البهية والحكمة الاجتماعية، في حديثه بعد نظر، وفي حضوره هيبة تفرض الاحترام، ووقار يُشعر من حوله بالأمان حتى في أكثر الأوقات اضطرابًا. وفي عالم يزداد قسوة يبقى أبو حسن نموذجًا نادرًا للإنسانية التي تأبى الانكسار، والنخوة التي لا تخبو جذوتها، حتى في أقسى الظروف.

كان يجلس أبو حسن على الأرض بين أكوام البطانيات المرهقة من البرد والرطوبة، وأشعل سيجارة بالكاد استطاع إشعالها من شدة الرياح. تحدث بصوته المثقل بالتجربة والألم عن ثقل الأيام عن الساعات التي تمر بطيئة في انتظار ما لا يأتي وعن سماء لم تعد تعرف سوى لون الرماد. كان حديثه عن التفاوض لكن ليس كما يجري في القاعات المغلقة والصالونات المكيفة بل كما يجب أن يكون – من قلب العاصفة، وسط الركام وعلى مرأى من الحقيقة العارية بلا رتوش. تخيل معي، قالها وهو ينفث دخان سيجارته، لو أن الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي دعا قيادة حماس إلى القاهرة، لا ليجلسوا حول طاولة من خشب ثقيل بل ليأخذهم بعدها إلى الحدود، إلى معبر رفح المصري ثم يجعلهم على بعد خطوات من رفح الفلسطينية، حيث لا حواجز تفصلهم عن الكارثة، حيث رائحة الموت تتسلل من تحت الأنقاض، حيث أصوات القصف والمدفعية لا تترك مجالًا للإنكار أو المزايدة. هناك، على بعد خطوات من الدمار، بلا فلاتر ولا تقارير بلا تصريحات جوفاء أو حسابات سياسية، سيواجهون الحقيقة كما هي.

كنت انظر لأبو حسن ومن داخلي ذهب خيالي إلى معبر رفح، تخيلت المشهد كما لو كنت أعيشه حيث لا مجال للهروب من الحقيقة، فهناك لا تحتاج الحرب إلى بيانات أو تصريحات أسامة حمدان ولا حاجة هنا لتقارير المنظمات الدولية، فالحرب تتحدث بنفسها عبر صرخات الأطفال تحت الركام وعبر صمت الرجال الذين اعتادوا وداع من يحبون دون دموع. هناك أمام الجدران التي كانت يومًا منازل، يمكن لقيادة حماس أن تلمس حجارتها بأيديها، أن ترى بعينيها كيف تتحول المدن إلى أطلال، وكيف يصبح الصمود أكثر من مجرد شعار يُردد على المنابر.

تنهد أبو حسن وكتم آخر نفس من سيجارته قبل أن يضيف: قد يبدو هذا السيناريو ضربًا من الخيال يا أبو العبد، لكنه قد يكون الخطوة الأكثر واقعية لإنجاح التفاوض. فحين تكون الحرب مجرد أرقام وتقارير يسهل على القادة التفاوض ببرود، لكن حين تكون الحرب أمامهم، وحين يصبح الدمار ليس مجرد خبر في نشرة المساء، بل مشهدًا يحيط بهم من كل جانب، وحين تصبح الشوارع التي دمرت هي نفسها مائدة التفاوض، وحين يصبح الدمار ليس فقط خلفهم بل تحت أقدامهم، يصبح لأي قرار معنى آخر. 

وتسأل بصوت خافت لكنه نافذ كالسيف: "أخبرني يا أبا العبد: هل يمكن لهذه الخطوة أن تنجح؟" آه يا أبا حسن، لم تراودني فكرتك هذه، حتى لا تخطر في بال أولئك الذين يُنظرون علينا من الفضائيات، ممن يُعرّفون أنفسهم بالخبراء الاستراتيجيين، لكنك أنت، في وسط النزوح، وسط المعاناة، صغت سيناريوً أقرب إلى الواقع من كل خطاباتهم الرنانة. ثم رفع رأسه إلى السماء الكئيبة وقال بصوت حمل كل ثقل الأيام الماضية: "التفاوض الحقيقي لا يكون في قاعات فخمة خلف الأبواب المغلقة، بل هنا، وسط الجحيم، حيث لا مجال للكذب أو المراوغة. إن أرادوا التفاوض حقًا، فليأتوا إلى حيث نحيا، أو بالأحرى، إلى حيث نحاول أن نحيا."

ثم أضاف في عالم السياسة قد يبدو هذا المشهد مستحيلًا، لكن في عالم الحرب والإنسانية قد يكون الطريق الوحيد لرؤية الحقيقة والاعتراف بها. فالسياسة لا يجب أن تظل حبيسة الحسابات الضيقة والمصالح العمياء بل يجب أن تلتقي مع الواقع، مع الألم الحقيقي، مع الدمار الذي لا يمكن ترميمه ببيان صحفي أو مؤتمر مزخرف بالكلمات التي يلقيها علينا أسامة حمدان بعد وجبة دسمة ومشروب بارد من فئة الفانتا أو السفن أب. ثم ألقى بسيجارته المطفأة على الأرض، ونفض رمادها عن يديه قائلاً: "أما إن فشلت المفاوضات هنا يا أبو العبد، فلا حاجة لإعادتهم إلى فنادقهم ومكاتبهم المكيفة، بل ليعودوا إلى غزة، إلى الأزقة التي امتلأت بالركام، إلى المخيمات التي ضاقت بأهلها، إلى الشوارع التي لم تعد تعرف سوى لون الحداد. ليتذوقوا الصمود كما هو، لا من خلف الشاشات، بل تحت السماء نفسها التي لم تُمطر منذ زمن سوى نارًا ورصاصًا. عندها فقط، سيدركون أن الصمود ليس شعارًا، وأن القرارات التي تُتخذ من بعيد، يدفع ثمنها من يقفون في قلب العاصفة.

شارك رأيك

التعليقات

لا تعليقات حتى الآن.

رأيك يهمنا. شارك أفكارك معنا.

barakanews

اقرأ المقالات البارزة من بريدك الإلكتروني مباشرةً


للتواصل معنا:


حقوق النشر 2025.جميع الحقوق محفوظة لصحيفة بركة نيوز.

تصميم وتطويرForTera Services

barakanews

اقرأ المقالات البارزة من بريدك الإلكتروني مباشرةً


للتواصل معنا:


حقوق النشر 2025.جميع الحقوق محفوظة لصحيفة بركة نيوز.

تصميم وتطويرForTera Services