52
0
النوردة الجزائرية… كنزٌ صحراوي يختبئ بين الرمال

في قلب الصحراء الجزائرية الممتدة، وبين الرمال الصفراء التي قد تبدو قاحلة لا حياة فيها، تنبُت واحدة من أكثر النباتات ندرة في شمال إفريقيا، عشبة النوردة أو Neurada procumbens، التي تُعرف في بعض المناطق باسم السعدان أو أنفال. ورغم شكلها البسيط الزاحف على الأرض.
هارون الرشيد بن حليمة
إلا أنّها تُعدّ من الكنوز البيئية التي تجمع بين القوة الطبيعية والخصائص العلاجية الفريدة. هذا النبات النادر أصبح اليوم محور اهتمام الباحثين في مجالات الطبّ الطبيعي والتنوّع البيولوجي في الجزائر.
أصل النبتة وانتشارها المحدود
تُصنَّف النوردة ضمن النباتات الصحراوية المعمّرة، وتنتمي إلى فصيلة النورديات (Neuradaceae)، وتنتشر أساسًا في المناطق الجافة من الجنوب الجزائري، خصوصًا في ولايات مثل ورقلة، تمنراست، إليزي، وبشار. وهي نبات منخفض النمو، تمتدّ سيقانه أفقياً وتغطي الرمال بطبقة خضراء دقيقة خلال فصل الربيع، ثمّ تجفّ بسرعة مع ارتفاع درجات الحرارة، لتترك بذورها في عمق التربة تنتظر موسم المطر القادم.
وتُعرف النوردة بقدرتها الفائقة على التكيّف مع أقسى الظروف المناخية، إذ تخزّن الماء في أنسجتها وتتحمّل درجات حرارة مرتفعة تتجاوز الخمسين مئوية، مما يجعلها رمزًا حيًا للصمود في وجه الجفاف.
الخصائص العلمية والتركيب الكيميائي
تُظهر التحاليل الكيميائية التي أجريت على عينات من نبات النوردة احتواءه على عدد من المركّبات النشطة بيولوجيًا، من بينها القلويدات والفلافونويدات والصابونينات والستيرولات، وهي عناصر تمنحه خصائص مضادة للأكسدة والالتهابات.
وفي دراسة منشورة بمجلة Molecules العلمية عام 2023، أشارت الأبحاث إلى أنّ مستخلص النوردة يمتلك تأثيرات محتملة في تنشيط الدورة الدموية وتخفيف التشنّجات العضلية، كما أظهر نشاطًا مضادًا للبكتيريا والفطريات. ورغم أنّ هذه النتائج ما تزال في طور التجريب المخبري، فإنها تفتح الباب أمام استخدام النبات في الصناعات الدوائية والتجميلية.
الاستخدامات التقليدية في المجتمع الصحراوي
في التراث الشعبي الجزائري، لطالما كانت النوردة جزءًا من الطبّ التقليدي. فقبائل الطوارق وبعض سكان الصحراء الكبرى يستعملونها منذ مئات السنين في علاج آلام المفاصل، والالتهابات الجلدية، ومشاكل الجهاز الهضمي.
وتُحضَّر عادةً على شكل مغليّ أو مسحوق يُضاف إلى الحليب أو الزيوت الطبيعية. كما يُعتقد أنها تساعد في تقوية الأعصاب وتحسين النشاط البدني، وهو ما جعلها تُعرف محليًا باسم “نبتة القوة الصحراوية”. ومع ذلك، يُحذّر الأطباء من الإفراط في استخدامها بسبب احتمال تأثيرها على ضغط الدم أو تفاعلها مع بعض الأدوية.
تهديدات بيئية وحاجة إلى الحماية
رغم قيمتها الطبية والبيئية، فإن عشبة النوردة تواجه خطر الاندثار بسبب الرعي الجائر وتدهور التربة الصحراوية، إضافة إلى التغيرات المناخية التي قلّلت من فترات الإزهار ونموّ الغطاء النباتي في الجنوب.
وتشير دراسات جزائرية حديثة إلى أنّ العديد من الأنواع الصحراوية المماثلة مهدّدة بالزوال إذا لم تُتَّخذ إجراءات عاجلة لحمايتها، مثل إدراجها ضمن قوائم النباتات المحمية أو إنشاء “بنوك للبذور” في الجامعات والمعاهد الزراعية.
إمكانية استثمارها في الجزائر
تفتح النوردة آفاقًا واعدة أمام الباحثين والمستثمرين في مجالات الصيدلة العضوية والمنتجات الطبيعية. فوجودها في الجزائر يمنح البلاد فرصة نادرة لتطوير مستحضرات تجميل أو مكملات غذائية محلية المصدر. كما يمكن أن تكون نموذجًا ناجحًا لمشاريع بيئية صغيرة في المناطق الجنوبية، تُعنى بزراعة النباتات الصحراوية واستثمارها بطرق مستدامة.
ويرى الخبراء أن دعم هذه المبادرات لا يقتصر على الفائدة الاقتصادية فقط، بل يساهم في الحفاظ على التنوّع البيولوجي الوطني الذي يُعد ثروة علمية وطبيعية للأجيال القادمة.
إنّ النوردة الجزائرية ليست مجرد عشبة نادرة تنمو في الرمال، بل هي رمزٌ للقدرة على الحياة وسط القسوة، ورسالة بيئية تدعونا إلى الاهتمام بما تخفيه صحارينا من ثروات طبيعية عظيمة.
وفي زمن تتسابق فيه الدول لاكتشاف الأعشاب الطبية واستثمارها، يبقى من واجب الباحثين والهيئات البيئية في الجزائر العمل على حماية هذه الجوهرة الصحراوية وتطوير المعرفة حول فوائدها واستعمالاتها الآمنة.
ففي عالمٍ يمضي نحو التغيّر السريع، تذكّرنا النوردة أن “الحياة الخضراء” قد تولد من عمق الرمال، فقط حين نحسن رعايتها.

