131
3
الحرقة..حين يفقد الأمل وجهته

بقلم: منال بومعراف / طالبة الدكتوراه
لم تعد الهجرة غير الشرعية، أو ما يُعرف بـ "الحرقة"، مجرَد فعل شباني يائس، بل أصبحت ظاهرة اجتماعية مركَبة تعكس اختلالات عميقة في البنية الاقتصادية والثقافية والنفسية للمجتمعات المعاصرة، وفي المجتمع الجزائري بشكل خاص.
فكلَ قارب يبحر نحو المجهول لا يحمل فقط أجساداً تبحث عن الخلاص، بل يختزن قصصاً عن الإحباط، وضياع الأمل، والرغبة في الانعتاق من واقع لم يعد يُحتمل.
إنَ "الحرقة" اليوم ليست مجرد فعل فردي، بل هي مؤشر سوسيولوجي على أزمة الثقة بين الفرد ومؤسساته، بين الحلم الوطني والواقع المعيشي.
فهي تعبير صامت عن جيلٍ يرى أن الطريق إلى الحياة لا يمرَ عبر الوطن، بل يبدأ من البحر.
من منظور سوسيولوجي، يمكن قراءة "الحرقة" بوصفها سلوكاً احتجاجياً صامتاً على أوضاع اجتماعية غير عادلة.
فالشاب الذي يخاطر بحياته في عرض البحر ليس متهوراً كما يُصوَر أحياناً، بل هو شخص استنفد كلَ إمكانيات الانتماء، فاختار "الانسحاب الرمزي" من مجتمع لم يجد فيه موقعه.
هنا يتجسَد ما أشار إليه "بيار بورديو" عندما تحدَث عن الأفراد الذين "يتراجعون عن المشاركة لأنهم لم يعودوا يملكون رأسمالاً اجتماعياً أو ثقافياً يؤهلهم للبقاء في الحلبة".
في المدن الساحلية الجزائرية مثل عنابة، وهران ومستغانم، تحوَلت "الحرقة" إلى مشهد مألوف.
تقارير خفر السواحل تكشف عن مئات القوارب التي تُحبط شهرياً، تضم شباباً في مقتبل العمر، بل وعائلات كاملة تراهن على المجهول.
وكثيراً ما تهزَ أخبار غرق القوارب الرأي العام، لتتحول كل مأساة بحرية إلى مرآة تعكس عميق الأزمة التي يعيشها المجتمع، وإلى صورة رمزية لاحتراق الأمل الجماعي لدى جيلٍ أنهكه الانتظار وفقد ثقته في إمكانية التغيير من الداخل.
اقتصاديَا، لا يمكن إغفال دور البطالة وانسداد الأفق المهني في تغذية هذه الظاهرة.
فالكثير من الشباب، رغم مستواهم الجامعي، يعيشون بين مطرقة الحاجة وسندان الإقصاء.
أحد الشباب صرَح في مواقع التواصل الاجتماعي: "قريت عشر سنين وما لقيتش خدمة، البحر هو الحل الوحيد باش نغيَر حياتي."
هذه العبارات البسيطة تختصر عمق الأزمة، وتحوَل "الحرقة" من فعل فردي إلى صرخة جماعية ضد واقع بلا منافذ.
كما أن غياب العدالة في توزيع الفرص وعدم ربط الكفاءة بالترقية يزيد من شعور الإقصاء ويدفع الشباب إلى البحث عن اعترافٍ في فضاءات أخرى.
اجتماعيَا، يعمَق التفاوت بين المناطق الساحلية والداخلية الإحساس بالظلم. فشباب الهضاب والجنوب يتجهون نحو السواحل ليس بحثاَ عن البحر فحسب، بل عن منفذ رمزي للانتماء.
أما ثقافياَ، فقد لعبت وسائل التواصل الاجتماعي دوراَ بارزاَ في تجميل صورة المهاجر.
يكفي أن ينشر أحد "الحراقة" فيديو من برشلونة أو ميلانو ليغدو نموذجاً يُحتذى به، متجاهلاً ما يعيشه من معاناة هناك.
هكذا تتغذى "الحرقة" من يوتوبيا افتراضية تقدَم أوروبا كجنة خلاص، في حين تُخفي وجهها الآخر من تهميش واستغلال واغتراب.
أسرياَ، تكشف الظاهرة هشاشة العلاقات العائلية الحديثة، كثير من الشباب يغادرون دون علم ذويهم، تاركين وراءهم فراغاً مملوءاً بالدموع والأسئلة والحيرة.
فمثلا، هناك أم فقدت ابنها في البحث قالت: "كان يقولي راني نخمم نروح نخدم في العاصمة، ومافهمتش بلي راه حارق."
تلك الكلمات تختزل غياب التواصل بين الأجيال وتعبَر عن أزمة في الحنان الاجتماعي، لا في الاقتصاد فقط.
إن اختزال "الحرقة" في بعدها الأمني، عبر تشديد المراقبة والعقوبات، هو تجاهل لجوهر الأزمة.
فالهجرة غير الشرعية ليست مجرد فعل جنائي بل صرخة اجتماعية تطالب بالاعتراف والكرامة. الحل لا يكمن في إغلاق البحث، بل في فتح أفق الأمل، من خلال سياسات تنموية عادلة، وفرص تشغيل حقيقية، وإصلاح منظومة الثقة بين المواطن والدولة.
فالحرقة ليست فقط قفزاَ فوق الأمواج، بل هي قفز على واقع لم يعد يقدَم وعداَ بالمستقبل.
وما لم يُسترجع الأمل داخل الوطن، سيبقى البحر الوجهة الوحيدة لمن فقد الإيمان ببرَ الأمان.

