133389
0
مذكرات شاهد على سنوات الجمر الحلقة 139

بقلم اسماعين تماووست
الأصولية ، أو ما يُعرف بالفندمنتاليزم ، تبدأ كمحاولة للعودة إلى الجذور، لكنها حين تفقد روح الاجتهاد والاعتدال، تتحول إلى إقصائية قاتلة، تحبس الدين في قوالب جامدة.
أما التطرف، أو الإكستريميزم، فهو الوجه العملي العنيف للأصولية المتعنتة، إذ ينقل الفكر الجامد إلى ميدان الفعل الدموي، حيث تتحول الكلمة إلى سلاح، والعقيدة إلى ذريعة للدمار.
لقد عشتُ، أنا المفتش إسماعيل تماووست، في مواجهة هذا التداخل القاتل، رأيتُ كيف يزرع الفكر الأصولي بذور الكراهية، وكيف يحصدها التطرف قتلاً وتدميرًا.
كان الأمر أشبه بطوفان يغمر العقل ويجرف معه القيم، حتى يغدو الإنسان آلةً بلا وعي، يقتل باسم دين يجهل معناه.
ووسط هذه المعركة، كنت أتساءل: كيف تسقط النصوص المقدسة في فخ التفسير المتشدد، وهي التي تدعو للتسامح والحكمة؟ ألم يقل الله تعالى: "وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ"؟ أين الوسطية التي تدعو إليها الرسالة؟
لقد أدركتُ من خلال عملي أن الأصولية ليست المشكلة في حد ذاتها، بل في التطرف الذي يُنتج عنها عندما تتحول الفكرة إلى أداة للهيمنة.
كانت سنوات الجمر التي عاشتها الجزائر خير دليل على ذلك، حيث اجتمع فكر أصولي مشوه وتطرف أعمى ليخنق حياة الأبرياء، لكن هذه المواجهة لم تكن فقط مع المجرمين المسلحين، بل مع منظومة فكرية تتغلغل في العقول، منظومة ترفض الحوار وتشيطن الآخر، وتجعل من الدين أداة قمع بدل أن يكون منارة هداية.
كنتُ أؤمن أن مهمتي كمفتش لا تقتصر على المداهمات والاعتقالات، بل تمتد إلى فهم جذور الظاهرة ومواجهتها بالفكر والحوار. فالتطرف لا يُهزم بالقوة وحدها، بل بتفكيك خطاب الكراهية الذي يولده، وبتجديد الفهم الديني الذي يُعيد للدين روحه الحقيقية، لذلك سعيت لأن أكون صوتًا يضيء طريق الفهم وسط عتمة العنف.
الإرهاب في الجزائر كان اختبارًا قاسيًا لروح الأمة، لكنه كان أيضًا فرصة لفهم أن المعركة ليست فقط ضد الأعداء الظاهرين، بل ضد الجهل الذي يُغذيهم، وضد الخوف الذي يجعلنا صامتين أمام التطرف، واليوم، حين أنظر إلى تلك السنوات، أوقن أن الصمود لم يكن ممكنًا إلا بإيماننا بأن الفكر الحر هو أقوى سلاح، وأن الجزائر، بتاريخها وشعبها، أكبر من أن تكسرها موجات العنف العمياء.
الإرهاب لم يكن مجرد معركة مع جماعات مسلحة، بل كان معركة مع أفكار تجرد الإنسان من إنسانيته. واليوم، حين أنظر إلى تلك السنوات، أعلم أننا انتصرنا ليس فقط لأننا واجهنا المجرمين، بل لأننا استعدنا روح الجزائر.
لكن التحدي لم ينتهِ فالفكر الظلامي يظل يتربص متى وجد فرصة لهذا أؤمن أن دورنا الآن هو أن نكون يقظين، أن نستمر في بناء أجيال تعرف كيف تصون الحرية، وتواجه الكراهية بالنور، والتطرف بالفكر. وكما قال أحد الحكماء: 'الحياة ليست أنفاسًا نعيشها، بل قيمٌ نحيا من أجلها.'"
في الحقيقة، كانت تحقيقاتنا المستمرة، التي امتدت لأيام طويلة، تسير في دائرة مفرغة دون أن تثمر عن أي نتائج ملموسة. كأنما كنا نخوض معركة في الظلام، نصارع أشباحًا لا تُرى، بينما الزمن يمضي بثقلٍ يزيد من وطأة المسؤولية على عاتقنا.
ومع ذلك، ظلّ سكان المناطق النائية، تلك التي قد تكون وجهة محتملة للمجرمين الفارّين، يعيشون في حالة من الترقب والقلق المستمرين.
لم تكن حياتهم حياةً طبيعية بأي شكل من الأشكال؛ كانت كل حركة محسوبة، وكل همسة مغمورة بالرهبة. لقد أدركوا تمامًا خطورة الموقف، وتسلحوا بيقظة دائمة، معتقدين أن الحذر وحده هو مفتاح البقاء على قيد الحياة في هذه الظروف، كانوا ينظرون إلى القادم من بعيد كأنه يحمل الشر بين يديه، فلا يُفتح الباب إلا بعد تدقيق، ولا تُضاء المصابيح ليلًا إلا بحذر شديد.
في تلك المناطق المعزولة، أيقنت العائلات بعد تأمل عميق حجم التهديد الذي يحيط بها من كل جانب. لم يكن تهديدًا عابرًا يمكن تجاوزه؛ بل كان شبحًا يُخيم على البيوت، يُثقل الأجواء، ويمنع النوم عن العيون.
اختار الجميع الانعزال خلف أبواب مغلقة، يلفّها القلق، وتغمرها المخاوف، الخوف لم يكن فقط من الانتقام الذي قد يلاحقهم إن تعاونوا مع الأجهزة الأمنية؛ بل كان أيضًا من المجهول الذي قد يتسلل في أي لحظة، يحمل معه نهاية غير متوقعة.
الانتقام كان أشبه بسيفٍ معلّق فوق رؤوسهم. لم يكن مجرد تهديدٍ عابر؛ بل خطة أعدّها المجرمون بعقلية شيطانية، هدفها بثّ الرعب في القلوب، وتحويل كل فعل مقاوم إلى خطر محدق. كانت تلك الخطة تُدار بدهاء، مستغلة كل نقطة ضعف بشرية: الخوف من المجهول، الرغبة في النجاة، وحب الأسرة الذي كان يقيّد الجميع من الإقدام على أي خطوة قد تُعرضهم لخطر محتمل.
انتشرت تهديداتهم كالنار في الهشيم، الكلمات التي كانوا يلقونها هنا وهناك كانت كافية لإشعال فتيل الهلع، لتسري كموجة من الخوف تجتاح العقول والقلوب.
كانوا يعلمون، أكثر من غيرهم، كيف يجعلون من تهديداتهم حقيقة مرعبة، لم تكن تلك التهديدات مجرد كلمات تُلقى فحسب، فقد كان الإرهابيون، ببشاعة أفعالهم، يجيدون تنفيذ جرائمهم بوحشية لا تعرف الرحمة.
كانوا يدركون أن بثّ الرعب في النفوس هو جزء من خطتهم لإخضاع الجميع، لتتحول أي مقاومة، مهما كانت صغيرة، إلى جريمة في نظرهم تستحق العقاب الأشد قسوة.
هذا الواقع المرير ألقى بظلاله السلبية على مصادرنا الأساسية للمعلومات، كانت قنواتنا الاستخبارية، التي اعتمدنا عليها في جمع التفاصيل الدقيقة، تتلاشى تدريجيًا تحت وطأة الخوف المتزايد.
كلما حاولنا بناء جسور الثقة مع السكان، كانت تلك الجسور تُهدَّم بفعل الإرهاب الذي يستغل ضعف البشر وهواجسهم.
لطالما كنتُ أعتبر الحصول على المعلومات السلاح الأهم والأكثر فعالية في مواجهة الإرهاب أو أي عدو آخر، لم تكن المواجهة المباشرة خياري الأول؛ بل كنت أفضّل السير في طريق بناء الثقة، خطوة بخطوة، مع كل شخص أعدّه للتعاون الوطني. كان الأمر يتطلب صبرًا طويلًا، ومهارة فائقة في قراءة النفوس، وفهم دوافع الناس.
كان هدفي الأول أن أحصل على أدقّ التفاصيل، مهما بدت صغيرة، عن كل حركة أو فعل قد يحمل في طياته تهديدًا إرهابيًا، كنت أعلم أن هذه التفاصيل الصغيرة قد تكون المفتاح الذي يفتح لنا أبوابًا مغلقة، وقد تكون الشعلة التي تنير لنا طريقًا مظلمًا نحو الحقيقة.
لقد كانت مهمتنا أشبه برحلة في بحرٍ متلاطم الأمواج، حيث كان كل خطأ قد يكلفنا غاليًا. لكننا، رغم كل التحديات، كنا نؤمن بأن الإرادة الوطنية واليقظة المستمرة هما السلاحان اللذان لا يمكن لأي قوة غاشمة أن تهزمهما.
كنتُ أتحرك بحذر بين الظلال، أراقب وأستمع دون أن أترك أثرًا يُذكر. لم تكن المسألة مسألة خوف أو تردد، بل كان إدراكًا عميقًا أن أي خطوة خاطئة قد تُأجج لهيب هذه النار المشتعلة، كنتُ أعرف أن الجرائم التي تفاقمت في تلك الفترة لم تكن مجرد أفعال عشوائية، بل كانت جزءًا من مؤامرة قاتمة، حيث لم يكتفِ المجرمون بسلب الأرواح، بل قتلوا الإنسانية معها.
كانت تلك الحقبة مليئة بالظلام؛ عتمة غطّت العقول والقلوب، حيث أصبح الإنسان عدوًا لأخيه، والخيانة تُباع في الأسواق بثمنٍ بخس. كنتُ أرى كيف أن الأبرياء يُسحقون بلا رحمة، وكيف أن الجناة يختفون في السر كأن الأرض تبتلعهم، تاركين خلفهم رعبًا وألمًا لا ينتهي.
ما زاد خوفي هو أني كنتُ أشعر بأن البعض ممن عاشوا حولي قد يُستخدمون كأدوات انتقام. الفقر كان سلاحًا بيد المجرمين، والمحتاجون كانوا أكثر عرضة للوقوع في فخ الخيانة. كانوا يستغلون كل ثغرة في النفوس، فيعرضون الأموال والمجوهرات، فتتحول القيم والمبادئ إلى مجرد كلمات فارغة أمام بريق الثروة.
لقد كان المال القذر، المسروق من دماء الأبرياء، هو السلاح الأكثر فتكًا بيد الإرهاب. كانوا يعرفون كيف يستخدمونه، يزرعون به الفتن، ويشترون به النفوس الضعيفة. لم يكن هناك منطق في هذا السقوط الأخلاقي، سوى أن بريق الذهب كان أقوى من أي مبدأ.
الأساليب التي استخدمها الإرهابيون لم تكن تُشبه شيئًا من الإنسانية؛ كانوا شياطين يرتدون أقنعة بشرية، يزرعون عملاءهم في كل مكان، يستغلون ضعفهم وجهلهم وخوفهم، ليحوّلوهم إلى أدوات تدمير بلا وعي.
أولئك العملاء، الذين باعوا شرفهم وكرامتهم مقابل فتات من المال، كانوا يظنون أنهم يحافظون على حياتهم، لكنهم في الحقيقة كانوا يساهمون في تدمير حياة غيرهم.
كانت المعلومات التي يقدمها هؤلاء المتعاونون للإرهابيين هي المفتاح الذي يُسهّل لهم ارتكاب جرائمهم. كل معلومة، مهما بدت صغيرة، كانت تتحول إلى خيط يقود إلى كارثة. وبهذا الأسلوب، تمكن الإرهاب من التوسع، من ترسيخ أقدامه، ومن تحويل الخوف إلى أداة حكم وسيطرة.
لقد عاش الأبرياء في تلك الحقبة كأنهم رهائن، لا يعلمون متى ستأتي اللحظة التي تُنهي حياتهم أو تدمر عائلاتهم. أما أولئك المتعاونون مع المجرمين، فقد فقدوا كل معاني الكرامة والشرف. كانوا يعتقدون أن ما يفعلونه مجرد "وسيلة للبقاء"، لكنهم في الواقع كانوا جزءًا من آلة القتل التي دمرت كل ما هو جميل ونبيل....
يتبع ...