164
0
الباحث والكاتب الصادق بخوش :المذكرات روافد تسهم في رفع منسوب المادة التاريخية التي يتولى مهمتها المؤرخون

يتحدث الكاتب والباحث الصادق بخوش في هذا الحوار عن أهمية كتابة مذكرات مجاهدي ثورة التحرير ويرى بأنها تساهم في إغناء المادة الأولية لحماية الذاكرة من ناحية ولتوفير تراكم من المعلومات التي يعتمدها المؤرخ في إنجاز موضوعه بعد التحري والمقارنة والاستقراء.
ويتناول تجربته في كتابة مذكرات الرائد الراحل لخضر بورقعة رحمه الله ، ويكشف اهتمامه الشخصي بما صدر و يصدر من مذكرات في مختلف الولايات التاريخية فذلك جزء من اهتماماته ،اعتقادا منه أن الإفصاح عما عاشه هؤلاء الفاعلين وما كابدوه وتعرفوا إليه إنما يفيد في بلورة العديد من زوايا الذاكرة الجماعية ، وقد دعا الصادق بخوش إلى تأسيس مدرسة وطنية لكتابة التاريخ تقوم على أسس العلم الموضوعي والنزاهة والبعد الإنساني
حاورته ذهبية عبد القادر
ـ هل أنتم ممن له اهتمام بكتابة مذكرات عن ثورة التحرير تحديدا من طرف قادتها في العديد من الولايات التاريخية وما هو تقيمك لهذه المقاربة؟
نعم، كنت محظوظا بكتابة مذكرات المغفور له بإذنه تعالى الرائد لخضر بورقعة ،أحد قادة الولاية الرابعة التاريخية وقد تم ذلك سنة 1986 وظل النص خاضعا للتدقيق والتمحيص والمراجعة إلى أن صدر بعد أربع سنوات أو ما يقارب .
ولعل هذه المذكرات التي صدرت عن دار النشر الحكمة تحت عنوان :"شاهد على اغتيال الثورة " هي باكورة مختلف المذكرات التي كتبها مجاهدو ثورة التحرير فيما بعد.
أما بخصوص اهتمامي الشخصي بما صدر و يصدر من مذكرات في مختلف الولايات التاريخية فذلك جزء من اهتماماتي ولا أفتأ أقتفي أثر كل ما يصدر بهذا الشأن ،اعتقادا مني أن الإفصاح عما عاشه هؤلاء وكابدوه وتعرفوا إليه إنما يفيد في بلورة العديد من زوايا الذاكرة الجماعية وقد دأبت على القول بأن ما يكتب من مذكرات ليس هي التاريخ ،لأن التاريخ علم مستقل بذاته ضمن منظومة العلوم الإنسانية والاجتماعية ، مستقل بمنهجه وبمادته وبأسلوبه الموضوعي، بعد تحريات لمادته في الوثائق المادية واللامادية ، وما إليها من شروط يستوجبها علم التاريخ ، وهو مفتوح على فضيلة النقد والمراجعة والتدقيق والإضافة ، لذا ندعو إلى تأسيس مدرسة وطنية لكتابة التاريخ تقوم على أسس العلم الموضوعي والنزاهة والبعد الإنساني .
إن هذه الإحالة ترجح لدينا فهما متواضعا عما بين المذكرات الشخصية التي فيها من الذاتية ما قد يبعدنا عن الموضوعية، علما أنه ليس كل المذكرات بنفس المستوى وبذات القيمة إذ تتفاوت فيما بينها بالنظر إلى مكانة صاحبها ومركزه من القيادة والأدوار التي لعبها في إدارة ثورة التحرير وبالنظر في ذلك إلى المستوى العلمي والثقافي لصاحب المذكرات ،هذا لا ينفي فضيلة نصر على فوائدها الجمة في إغناء المادة الأولية لحماية الذاكرة من ناحية ولتوفير تراكم من المعلومات التي يعتمدها المؤرخ في إنجاز موضوعه بعد التحري والمقارنة والاستقراء.
ونأسف إذ أن ما كتبه المحتلون عن ثورتنا من جنود وصف ضباط وضباط سامون وسياسيون وصحفيون وغيرهم غزير لا يضاهيه ما كتبه الجزائريون،الأمر الذي يدفع بمؤرخينا إلى الاعتماد على ما كتبه المحتلون بتفاوت في الموضوعية والأمانة التاريخية بين البعض والبعض الآخر.
ـ هل تعتقد أن هذه المذكرات تحتوي معلومات إضافية هامة تسهم برأيكم في بلورة وإثراء وتصويب التاريخ الوطني؟
في البداية ،من الضروري أن نبين مسألة ذات أهمية قيمة في رأينا وهو أن المذكرات الشخصية مهما بلغت مصداقيتها وموضوعيتها ومكانة صاحبها من القيادة لا يمكن اعتبارها تاريخا بما هو عليه التاريخ من علم بمعنى خضوع المادة التاريخية إلى منهج يحصن العقل من الخطأ ووثائق مادية ولا مادية وإلى مقارنات بين الوثائق وعرضها على العقل ، واعتماد الشك المنهجي في هذه المواد بما يجعلها خاضعة لغربلة حقيقية وما إلى ذلك من الأساليب والاجتهاد الممحصة لهذه المادة التاريخية بعيدا عن الذاتية والفخر والمدح أو الذم والتسريب.
أما المذكرات الشخصية تظل في كل الحالات عملا من منطلقات رؤية ذاتية ،لا يمكن الخلاص منها مهما التزم الكاتب أو الشاهد الموضوعية والتجرد فهي خالية من المقارنة ومواجهة الرأي بما يخالفه ، ثم إن الشهادة مهما أحاط صاحبها بالحدث الواحد أو الأحداث المتعددة تظل ثمة زوايا مخفية عنه ، لا يتنبه إليها ، لا سيما بعد تقادم مرحلة الثورة بكل زخمها عن تاريخ كتابة هذه المذكرات ،لأن الذاكرة الفردية معرضة للتلف والنسيان بما يجعلها أقرب من الانطباعات إلى الحقائق الموضوعية التي يعركها العقل ويمحصها دون تأثير خارجي لأسباب عديدة.
هذا لا يعني أبدا أن المذكرات ونعني بها تلك التي كتبها ضباط جيش التحرير وبعض الجنود في ثورتنا عمل غير مفيد ولا يسهم في توفير المادة الأولية لكتابة التاريخ ، بل هي روافد تسهم في رفع منسوب المادة التاريخية التي يتولى مهمتها المؤرخون بما توفر لديهم من علم موضوعي ، ونسجل بكل أسف ندرة ما كتبه ثوارنا من مذكرات الأمر الذي فسح المجال أمام الجنود والضباط الفرنسيين والقادة السياسيين ومراسلي الحروب مثلما فعل إيف كوريير وغيره كثير ،وهي كتابات ذاتية إن لم تمجد الاستعمار فقد شوهت الحقائق ودنست على التاريخ وبرأت الجرائم ،حتى أنهم قد تساووا بين الضحية والجلاد ، بل لقد فرض الكثير منهم
إلى جانب مؤرخيهم رؤية المدرسة الكولونيالية لكتابة التاريخ المشترك بيننا وبينهم ،والأخطر من ذلك هو غياب رؤية مضادة ومادة كثيفة لدينا فسقط الكثير منا تحت هيمنة أقاويلهم معتبرين ما يكتبونه مراجع موثوقة في هذا التاريخ ، وأن مماطلة عدو الأمس ، في إطلاق سراح أرشيفنا الوطني بما في ذلك المشترك بيننا وبينهم خوفا من هذا الماضي الذي يدينهم والذي حدى بقادتهم عبر تصريحاتهم ومواقفهم المتعجلة للهروب إلى الأمام لكي لا يعترفوا بمجازرهم ضد الجزائريين ومفاسدهم التي فاقت في فضاعتها كل التصورات،إن المخيال الفرنسي الاستعماري مريض مرض عضال يأبى أن يثوب إلى رشده كما فعلت بعض الدول الاستعمارية الأخرى مع مستعمراتها .
أعتقد أن كتاب المذكرات ضرورة ملحة ليس فقط على المجاهدين والمجاهدات ،بل وحتى على اللذين شهدوا هذه الثورة بما في ذلك أطفال الأمس للذين هم اليوم كهول ومن بينهم الكثير من يحسن القراءة والكتابة والتأليف ، وأن يتجند الجميع من مفكرين في مختلف العلوم لتناول الظاهرة الكولونياليية بين المحتل الغاصب وضحيته ،فنفقه مختلف الأبعاد لهذا التاريخ من جوانب نفسية وسوسيولوجية ،بما يجعلنا نقدس ذاكرتنا في بعدها المحلي والإنساني وليس إعاد ة إنتاج رؤى وتصورات وأكاذيب المدرسة الكولونيالية ،وباستثناء بعض المؤرخين الفرنسيين النزهاء فان كل ما يكتب عنا هو تحريف وهروب عن قول الحقيقة ومحاولة تغليط لنا بل وحتى للمؤرخين الأجانب ،وأكبر دليل على ذلك أكاذيب ومزاعم واحد من المؤرخين الرسميين الفرنسيين بنيامين ستورا الذي قدم تقريرا لرئاسة جمهورية بلاده عن الذاكرة المشتركة وهي أكذوبة مركبة إذ أن هذه الذاكرة المشتركة التي تحدث عنها لا تعدوا أن تكون سوى علاقة بين الظالم والمظلوم بين القاتل والضحية وفي ذلك ضحك على الأذقان .
يزعم البعض أن من بين هذه المذكرات ما يمكن اعتباره تصفية حسابات ماضية وإبراز زعامات شخصية ،إلى أي مدى يمكن اعتبار هذا الزعم منطقيا؟
لا أعتقد أن مبدأ كتابة المذكرات بدافع تصفية الحسابات بأثر رجعي قد يكون الأمر تنافسا شريفا بين أصحابها ، وقد يكون أيضا بدافع تصحيح وتصويب ما قد ذكر من معلومات وردت في مذكرات أخرى وهي ظاهرة صحية في مسألة الحفر في الذاكرة وقدحها وإبانة المسكوت عنه من معطيات وأحداث وشخوص وأمكنة وتواريخ وما إليها سواء بالنسبة للطرف الجزائري كصاحب قضية شرعية في الدفاع عن النفس والوطن والكرامة أو بالنسبة للطرف الغازي الذي يشوه الحقائق ويدنس التاريخ بطغيانه المعهود دون وجه حق.
إن كتابة المذكرات من طرف الفاعلين في ثورتنا أو كل من له صلة بضرورة حياتية بالنسبة لإحياء الذاكرة وبعث الماضي عبر التوثيق والتنوير من أجل الإسهام في توفير المادة التاريخية الأولى التي يلقى بها غلى المؤرخين ليمحصوها ثم يصنعونها حسب علم التاريخ وفنه، أدبيات يستثمر فيها المخيال الوطني ويتلقفها الوعي من اجل التأصيل والتحصين والتجاوز لبناء مشروع مجتمعنا الوطني المتكامل.
ماهي الصعوبات التي وجهتها في كتاب هذه المذكرات ؟
بكل تأكيد أن كل عمل جاد محفوف بالمتاعب يستوجب الدقة والصبر والتثبت والتنبه بكل وعي لما ينجز ،و قد كان لي تجربة تكاد تكون غير مسبوقة في كتابة مذكرات المرحوم الرائد لخضر بورقعة أحد قادة الولاية الرابعة التاريخية وكان ذلك في سنة 1986، وقد تأخر صدورها لمدة ثلاث سنوات إذا صدقت ذاكرتي .
لا يمكنني إحصاء كل المصاعب التي واجهتها في كتابة هذه المذكرات ولكن سأذكر بعضا منها ،لم يكن الرائد لخضر بورقعة يكتب بالفرنسية ولا بالعربية إلا قليلا جدا أعتقد باللغة العربية ،ولكن هذا الرائد وهبه الله حافظة هائلة بمعنى يستطيع أن يستحضر الأحداث بكل دقائقها في أزمنتها وأمكنتها وشخصياتها وتطوراتها وتفرعاتها ، فله عقل تحليلي دون إخلال بالكليات ، وقد كنت أعاني معه فيما يتفرع من كلامه من تطلعيات ، وفيما يستطرده من ذكريات كثيفة يتيه معها المستمع إليه ، الأمر الذي جعلني أنبهه إلى العودة إلى المسار الذي يمكننا من القبض على هذه الأحداث وتفرعاتها ضمن الأطر المرسومة من قبلي ، وكنت أحيانا أأجل الحديث معه في حادثة واحدة أو نقطة إلى جلسات أخرى يفيض فيها بمعلومات جديدة ، وكنت أسعى باستمرار إلى مقارنة أقواله ومقابلتها ببعضها البعض تفاديا لأي تناقض أو تضارب.
وأعتقد أن الرائد لخضر بورقعة هو واحد ممن يملكون أرشيفا هاما من الوثائق والمراسلات داخل الولاية الرابعة وفي علاقاتها مع الولايات التاريخية الأخرى، وقد ترجمت له وثائق كثيرة من الفرنسية إلى العربية ، وكم مرة نبهني بذاكرته الواسعة إلى ما كتب من طر ف الجزائريين على ندرته وما كتبه الأجانب من معلومات رضي عن بعضها وانتقد الأخرى .
وبشهادة من قرأ هذه المذكرات بأنها تميل إلى السرد الأدبي الممهور بالجماليات التي يوفرها هذا الجنس الأدبي من الغوص في النفسيات وإبراز الصور وتسلسل الأحداث في أسلوب شيق يجمع بين الأمانة التاريخية لصاحب المذكرات وجمالية الصياغة بما يستهوي القارئ ويعصمه من الملل والنفور.
وكم مرة اختلفت مع الرائد لخضر بورقعة في الحديث عن بعض الشخصيات لا من باب التشكيك في أقواله التي هو حرفيها ومسؤول عن تبعاتها وإنما لما يراه من ضرورة في نقده لها.
هذه بعض الصعاب التي لقيتها في تحرير هذه المذكرات الرائدة ،ولا أشك أبدا بأن هذا النص غني بالمعلومات والمواقف كمادة كثيفة يمكن الاستفادة منها في كتابة التاريخ الموضوعي سواء بالنسبة للولاية الرابعة التاريخية أو لغيرها من الولايات بل عن الثورة كلها ، وعن علاقة الثورة بالشعب العربي وكل الشعوب الأخرى ، وعن رؤية الرجل للظاهرة الكولونيالية ولجرائم المحتل الفرنسي البشعة ضد شعبنا وطلائعه المقاتلة ، إن في بعض فصول مذكرات الرائد لخضر بورقعة مادة تاريخية جديرة بأن تتحول إلى أعمال فنية في الادب والسمعي البصري ، وقد إستفدت منها شخصيا في كتابة سيناريو العقيد سي أمحمد بوقرة قائد الولاية التاريخية الرابعة ، وهو قدوة الرائد لخضر بورقعة ومثله الأعلى في الثورة ، هذا القائد الذي نجهل قبره إلى اليوم ، رحم الله الرائد والصديق والعزيز عمي لخضر بورقعة والرحمة موصولة بإذن الله إلى كل شهدائنا ممن رفعه المولى إلى ملكوته الأعلى يرفلون في جنات النعيم.
.

