188
1
العجوة التي لا تشيخ: سرّ التمر بين العلم والإيمان والصحة
.jpg)
منذ أن وطأت أقدام الإنسان الأولى رمال الصحراء، ظلّ التمر غذاءً لا يغيب عن موائد العرب، ودواءً لا تخطئه وصفات الأجداد، في ظلال النخيل العالية التي تقاوم العطش وتخترق السماء بصلابتها، تولد ثمار صغيرة داكنة اللون، لكنها تختزن سرًّا من أسرار الحياة.ّ
الحاج بن معمر
تمرّة واحدة قد لا تبدو شيئًا أمام عالم الأغذية المعقد اليوم، لكنها في ميزان العلم والطب والتاريخ تساوي ما لا يُحصى من المنافع، حتى قال فيها النبي ﷺ: "بيتٌ لا تمر فيه جياعٌ أهله."
قيمة غذائية عالية
اليوم، وبعد آلاف السنين من تداولها، يعود التمر إلى الواجهة ليس كرمزٍ للتراث العربي فحسب، بل كقيمة غذائية وطبية يقرّ بها الأطباء وخبراء التغذية حول العالم.
هذا المقال يفتح نوافذ متعددة على أسرار التمر: في الجسد، والعقل، والروح، وفي لغة العلم التي تزداد انبهارًا كلما فُتح ملفّ هذه الثمرة العجيبة.
يقول الدكتور محمد الفايد، الباحث المغربي المعروف في علوم التغذية: “التمر ليس غذاءً عادياً، بل منظومة متكاملة من العناصر التي تحافظ على التوازن الداخلي للجسم، وتنظّم وظائفه الحيوية، وتدعم المناعة بشكل فطري.” ويضيف: “يكفي أن ننظر إلى تركيبته الطبيعية لنفهم سرّ إعجازه، فهو يجمع بين السكريات البسيطة سريعة الامتصاص، والألياف التي تنظم الهضم، والمعادن التي تبني الخلايا.”
في مختبرات الطب الحديث، حيث تُقاس القيم الدقيقة لكل غرام من الطعام، أثبتت التحاليل أن التمر يحتوي على أكثر من 15 نوعًا من المعادن، منها الحديد، والبوتاسيوم، والمغنيسيوم، والفوسفور، والكالسيوم، فضلًا عن فيتامينات A وB وC ومضادات الأكسدة التي تحارب الشيخوخة الخلوية.
هذه العناصر، كما يشير الدكتور مازن عودة، أخصائي التغذية العلاجية في جامعة القدس، “تجعل التمر غذاءً مثالياً في بيئات الإجهاد البدني والعقلي، فهو يمنح طاقة متجددة دون أن يرفع السكر بشكل مضر كما تفعل الحلويات الصناعية.”
ورغم أن البعض يربط التمر بفترة رمضان فقط، إلا أن الدراسات أثبتت أنه ينبغي أن يكون جزءًا دائمًا من النظام الغذائي. ففي بحث نُشر بمجلة Nutrition & Health، أظهر العلماء أن تناول سبع تمرات صباحًا يقلل من خطر الإصابة بفقر الدم بنسبة 30%، ويقوّي الذاكرة والمناعة العصبية، كما يحسن من أداء الكبد والكلى. وتؤكد الدكتورة ليلى حميدة، اختصاصية التغذية السريرية، أن “التمر يحمي الخلايا من التأكسد بفضل مركبات الفينول والفلافونويد، وهي مواد نادرة في الأغذية الحلوة.”
رمزية ثقافية وعمق حضاري
ولأن الغذاء ليس مجرد معادلة كيميائية بل فعل حياة، فإن التمر يمسّ فينا شيئًا أعمق. هو جزء من الهوية الثقافية والروحية، من عادات الضيافة، ومن الرموز التي تحكي الصبر والعطاء.
في المجتمعات العربية القديمة، كانت النخلة رمزًا للمرأة الصابرة وللأرض المعطاءة، وكانت ثمرتها "التمر" زاد المسافر وجابر الجائع. وفي التراث الإسلامي، كان النبي ﷺ يبدأ إفطاره بالتمر والماء، وهو ما أثبته الطب الحديث كأفضل وسيلة لإعادة توازن الجسم بعد الصيام.
يرى البروفيسور أحمد زهير، خبير التغذية الحيوية في جامعة القاهرة، أن “التمر ليس فقط مصدرًا للطاقة، بل أيضًا منظّم طبيعي للجهاز العصبي بفضل احتوائه على فيتامين B6 والمغنيسيوم، اللذين يساهمان في إنتاج السيروتونين والدوبامين، وهما الهرمونات المسؤولة عن تحسين المزاج والنوم.” ويشير إلى أن تناول التمر مساءً قبل النوم يساعد على تهدئة الأعصاب والتقليل من الأرق.
من الناحية الطبية، تشير الأبحاث إلى أن التمر يساعد على الوقاية من أمراض القلب لاحتوائه على مضادات الأكسدة التي تخفّض الكولسترول الضار وتمنع تراكم الدهون في الشرايين. كما يوصي به الأطباء لمرضى فقر الدم والنساء الحوامل، حيث يُعتبر التمر محفّزًا طبيعيًا لتقلصات الرحم عند الولادة، ومصدرًا ممتازًا للطاقة خلال الحمل. تقول الدكتورة نوال خليفة، اختصاصية أمراض النساء: “لم أجد طعامًا واحدًا يجمع هذا الكمّ من الفوائد للمرأة الحامل كما يفعل التمر. إنه يسهّل الولادة، ويزيد من إدرار الحليب بعد الوضع، ويمنح الأم طاقة مذهلة.”
مكمل غذائي لا يحتاج لإعلان تجاري
وعلى مستوى الدماغ، أكدت دراسات أجريت في جامعة هارفارد أن مضادات الالتهاب الموجودة في التمر تخفّف من خطر الإصابة بمرض ألزهايمر بنسبة تصل إلى 25% عند تناوله بانتظام. بل إن بعض الأطباء يعتبرونه “الفيتامين الطبيعي للذاكرة”.
أما في مجال الرياضة، فيوصي المدربون الرياضيون بتناول التمر قبل التمارين وبعدها، لأنه يزوّد العضلات بالوقود السريع دون أن يرهق الجهاز الهضمي. يقول المدرب خالد بن يوسف، المختص في التغذية الرياضية: “التمر هو مكمل طبيعي لا يحتاج إلى إعلان تجاري. إنه يمنحك الطاقة والقوة معًا، ويعيد التوازن الكهروكيميائي للجسم بعد المجهود.”
ولأن العالم اليوم يغرق في أنظمة غذائية معقدة ومكملات مصنّعة، فإن العودة إلى التمر تبدو عودة إلى الأصل، إلى بساطة الطبيعة. فحبة تمر واحدة هي مزيج من التاريخ والعلم والإيمان. إنها بركة متجسدة في غذاء، تختصر فلسفة “الاعتدال” التي تاه عنها الإنسان الحديث.
يختم الخبير اللبناني في الطب البديل، الدكتور جورج حدّاد، بالقول: “لو أن العالم أدرك قيمة التمر كما يعرفها العرب، لكان وجبة أساسية في كل بيت. فهو ليس غذاءً فقط، بل منظومة توازن نفسي وجسدي وروحي.”
وهكذا، بين مختبرات الغرب وسعف النخيل في الشرق، تبقى التمرة شاهدة على حكمة الأرض وكرمها. صغيرة في شكلها، عظيمة في أثرها، تقيم الدليل كل يوم على أن الطبيعة قادرة على منح الإنسان ما يعجز عنه صُنّاع الدواء.
إنها ليست مجرّد فاكهة، بل رسالة من الصحراء تقول: ما زال في الطبيعة ما يداوي الجسد والروح معًا.

