379
0
أبي هل هربت من السجن ؟

بقلم: عيسى قراقع
خلال استقبال الاسير المفرج عنه من سجون الاحتلال غسان زواهرة في مخيم الدهيشة والذي قضى ما يزيد عن 12 عاما على فترات مختلفة اغلبها اعتقالات ادارية ،كانت ابنته الصغيرة مينا 4 سنوات تجلس في حضنه وملاصقة له ، لا تتركه ابدا كأنها لا تريد من أي احد ان يقترب من والدها ، الطفلة تطوق والدها وتتحدث معه وتروي له قصصا لم يشهدها خلال غيابه عن البيت ، هو ملك لها وحدها ، تعانقه مرة تلو المرة وتقبله وتمسك بيديه وتمسد على وجهه وشعره ، تمنعه من الوقوف أو الحركة او حتى من القيام بمصافحة المهنئين ، فقد احتلت الطفلة مينا والدها تماما وكأنها تخشى اذا ما تحرك أن لا يعود اليها مرة ثانية .
مينا الصغيرة كبرت في بيت دوهم مئات المرات على يد جنود الاحتلال ، تستيقظ صباحا فلا تجد والدها في البيت ، وتكتشف أن الجنود المتوحشين خربوا ودمروا ونهبوا محتويات البيت ، زعقوا وصرخوا وهددوا واقتادوا والدها مكبلا بالحديد الى المجهول ، تستيقظ الطفلة البريئة وتجد ان العابها قد تحطمت واسرَّة اخوتها وخزائنهم قد نبشت ، وحاجيات واغراض المنزل قد تبعثرت ، وكأن قنبلة انفجرت في حلمها البريء. الطفلة مينا بدأت تدرك أن اللاجئ كما وصفه محمود درويش هو ان لا يكون طفلا منذ الان ، أن يكبر بسرعة ، يستوعب دلالات الصور الكثيرة المعلقة على الحيطان ، صور شهداء وعلى رأسهم عمها الشهيد معتز ، البيت لم يعد مكانا للمبيت ، صار جدارية للقبور الكثيرة ، رائحة دم في كل الارجاء ، اصوات رصاص ومداهمات ليلية في مخيم الدهيشة ، مينا لا تنام ، تسمع الكبار يتحدثون عن شهيد سقط هذه الليلة وعن جرحى ومصابين ومطاردين ، تنظر حولها تبحث عن والدها وعن اخوتها ، مينا الصغيرة تختبئ في حضن امها ملجومة بالرعب والاسئلة .
مينا الجميلة تكره الليل ، الليل ثقيل ، ليل المخيم يحتشد بالترقب وبالاجتياحات التي اصبحت شبه يومية ، همسات الشبان تشير الى اقتحامات للجنود وفرق الموت الاسرائيلية ، تحركات الشبان تدل انهم يستعدون هذه الليلة للسهر وحراسة المداخل والمواجهة ، ينتشرون في حارات المخيم وفي ازقته وفوق سطوح البيوت ، هل انجبنا الله في ساحة حرب ؟ قالت مينا وهي تراقب جنازة حاشدة تمر من باحة الدار الى المقبرة ، اين يذهب الشهيد يا ابي ؟ تسأل مينا وتنظر الى حيث اشار والدها الى السماء ، ولكن لماذا لا يعود سكان السماء يا ابي ؟ لقد اقترب عيد الفطر ومن المفترض ان يعود عمي الشهيد معتز ليشتري لي الهدايا والفساتين والحلويات الكثيرة .
الطفلة مينا لا زالت تحتضن والدها تتمسك به تمنعه ان ينهض ، وعليه ان يسمعها فقد غاب طويلا ، حكايات كثيرة جرت في حياتها : ذهول والدتها وحزنها الدائم ، زيارات للسجون منذ الفجر الباكر، مينا تريد ان تبكي وتشرح لوالدها ما يسكنها من فزع دائم ، ترتجف وترتعش عندما يطرق الباب ليلا او يفجره الجنود فجأة ، مينا تغلق الشبابيك وتدفن رأسها تحت الاغطية ، تريد ان تخبر والدها عن سر الكوابيس السوداء التي تنتابها ، عن هروب الفراشات الملونة من دفاترها ، لم يأت اليها بابا نويل هذا العام ، فقد قضى الناس كل ايامهم في حداد ، قوافل من الشهداء في كل مكان في فلسطين ، لا احد يضحك او يبتسم يا ابي ، الكل يتألم ، لا أحد يلعب أو يمرح أو يضيئ شجرة ، انا وحدي يا ابي فلا تتركني مرة أخرى . الطفلة مينا تستقبل المهنئين مع والدها بعد أن قضى عامين في الاعتقال الاداري ، وتكاد تمنعه أن يرد على اسئلة اصدقاءه وأحبائه ، مينا هي الصوت الوحيد العالي في قاعة الاستقبال ، تقول للناس : هذا ابي لي وحدي ، لقد انتظرته طويلا ، الوقت كله لي ، غاب كثيرا وحان الوقت ان اسأله عن الحياة القادمة ، حان الوقت أن يداعبني ويلاعبني ويريني البحر خلف المستعمرات ، أن يغني لي ويروي القصص التي ليس فيها كلمات عن القيود والزنازين والشبح والتعذيب واصوات الوحوش في أقبية التحقيق ، اتركوا ابي لي هذا المساء ، احتاج الى السلام الدافئ بين يديه ، الى طائر اخضر وغيمة ماطرة ، احتاج اليه فلا زلت خائفة ، في داخلي صدى يتردد : دموع امي ، الباب والمناضد والستائر والكتب والاقلام واللوحات وشتلات النعنع الذابلة ، الكل خائف ، لا امشي في الشارع فهناك سيارة عسكرية مسرعة، لا انظر الى الجبل فهناك قناص وفوهة بندقية ، انا خائف لا انا في الحديقة ولا انا في البيت ، عاد ابي فلينكسر الانتظار ويتحرك الوقت ويموت الصمت .
الطفلة مينا تستقبل سفينة والدها التي رست أخيراً، السفينة قاومت الطوفان ولم تغرق في لجج السجن العاتية، السفينة ترسو في مينائها، في حضن البنت الصغيرة، سفينة صلبة ليست من خشب، بل من لحم وعظم وإرادة عنيدة، قطعت البحور والمحيطات كلها ولكنها لم تتوه أو تعرف الخنوع والاستسلام، هي سفينة العودة من مخالب الاحتلال، سفينة الحب الذي ينتشر على وجه مينا، الحب الذي لا يعرفه المحتلون، الحب القوة الإنسانية العظمى الذي يختم بصمته على البداية والنهاية لشعب يعشق الحياة ما استطاع إلى ذلك سبيلاً.
مينا لم تصدق ان والدها عاد من السجن ، غيابه المستمر اصبح روتينا ، الاعتقال الاداري اصبح قاعدة جارفة تطال كل فئات الشعب الفلسطيني ، دربها حدسها على فهم المعادلة ، لن يعود بعد ستة شهور ، سيجددون له الاعتقال مرة تلو المرة ، لن يعود حسب قوانين اسرائيل الحربية والعنصرية ، ملفه السري يقول انه ما زال يشكل خطرا على دولة اسرائيل ، قضاة المحكمة العسكرية يخشون اذا ما تحرر غسان زواهرة سوف يربي ابنته الصغيرة على الصبر حتى لا يتعب الامل ، ولهذا صادقت المحكمة العسكرية على تمديد الاعتقال الاداري الى اجل غير محدود ، وقد ظنوا ان السجن سوف ينقص لديه القدرة على تذوق طعم الهواء ، وان تتجمد اشواقه وذكرياته فلا يكتب الى ابنته مينا عن الحرية والعودة واشتهاء الفضاء . مينا بدأت تفهم اسباب تصاعد عمليات الاعتقال الاداري التي زادت عن الالف اسير هذا العام ، الاسرى لن يعودوا الى عائلاتهم ، يسافرون في ليل السجون حتى تصاب قلوبهم وذاكرتهم بالتعفن والعطب ، ان ينسوا نكبتهم وحياتهم السابقة ، دولة الاحتلال تريد ان تبقي حياة الطفلة مينا ناقصة ، سنة وراء سنة وهي تنادي عليه ، يا ابي عد امينا ، يا ابي انا مشتاق اليك ، انا خائفة . الاعتقال الاداري هو شكل من اشكال التعذيب النفسي والاجتماعي ، اسألوا الطفلة مينا ، اسألوا العائلات المكلومة في قاعات المحاكم العسكرية ، لا احد يفرج عنه من المحكمة ، يصادق القضاة على كل اوامر وقرارات الاعتقال الاداري ، انها اوامر جهاز المخابرات والجهات الرسمية في دولة الاحتلال ، هذا الاعتقال يبعثر حياة الشعب الفلسطيني ، الحياة تصير محطات انتظار متعثرة ، كل شيء يصبح مؤجلا : المواعيد والمناسبات والزيارات والشهوات والتعليم والسفر ، تمتلئ النفوس بالدهشة والحيرة والضجر، تتبخر المعاني وتكثر الصدمات ويطفح الالم ، من يحرث الحاكورة ، من يزرع الشجر ، من يجلب جرة الغاز ، من يحتفل بعيد ميلاد مينا ، يضيئ لها الشموع ويشتري لها اجمل هدية ، ويأخذها صباحا الى المدرسة .
الاعتقال الاداري نهب للأعمار وقد بدأ منذ عهد الاستعمار البريطاني واستمد احكامه من القوانين النازية ، ولكن كيف تفهم الطفلة مينا كل ذلك ؟ انه الرحيل الدائم للأرواح وللأزمنة ،يصير الاسير مجرد لوحة او صورة او ظلال عابرة ، فمن يهز الصورة ويعطيها حياة وهوية ؟ اللقاء الحميم بين الطفلة مينا ووالدها المفرج عنه من السجن لفت انتباه الجميع ، سالت دموع الرجال وهم يشاهدون فرح الصغيرة يرفرف حول والدها، انها فرحة انسانية سياسية بعيدة المدى ، هذه الطفلة تقول: لا يوجد أغلى ولا اغنى ولا اقدس من الحرية ، مينا تجرحنا جميعا لأنها توجه الانظار الى الاف الاطفال المحرومين من ابائهم وامهاتهم ، الجالسون تحت الليالي بلا سماء مقمرة ، النائمون على دمعة يائسة ، انها لحظة الحرية والخلاص من السلاسل وعتمة الظلام ، لحظة تكفي لكي تحيا الطفلة مينا حياتها كلها دفعة واحدة .
في قاعة استقبال الاسير غسان زواهرة في مخيم الدهيشة سمعت الطفلة مينا تسأل ابيها : هل هربت من السجن يا ابي ؟ لا احد يعود من الاعتقال الاداري واذا ما عاد سرعان ما يعتقل مرة اخرى ، الطفلة المندهشة لم تصدق ان ابيها اصبح في البيت ، ربما حفر نفقا وهرب ، فالاعتقال الاداري هو العدو الدائم الذي يتربص بالشعب الفلسطيني بلا رحمة ، ربما تحول والدها الى ظل اطل على ليل المخيم من العدم ، ربما هو حلم من احلامها ووساويسها المضطربة ، مينا تطوق والدها بجسدها ، تضغط على يديه ، تشم انفاسه ورائحته وتنظر في وجهه وعينيه ، مينا تريد ان تتأكد انه معها ، تتطلع حولها وكأنها تخشى ان يخطفه الجنود ويزجوه في تلك السجون الظالمة ، مينا تنام في حضن والدها ، تقول : هذا ابي ، اعطوني لحظة اشعر فيها ان طفولتي مكتملة .
الحركة الأسيرة الفلسطينية في يومها
بقلم : المتوكل طه
من تحت أقواس الدم ؛ من جنين ونابلس إلى القدس وغزة، وعلى امتداد الوطن ، وتحت سماء الشهر الفضيل، وفي يوم الحركة الأسيرة ، التي جعلت الحريةَ حرةً ، والتي هي اسمٌ من أسماء فلسطين، يشرق يوم الحركة الأسيرة من شمس البلاد وجبالها ، ووجه السنابل وقمح البراري وطين البيارات، وقد نَحَتَ السجن ُ قامتها، فجاءت أغانيات للأمل والمستحيل ، بعد أن بعثت روحها مشيمةً تجفّفها الحوامل على صخرة الوادي ، وبعد أن نشرتها على حِبال الليل في الزنازين الموحشة . فَطَمتْ هذه الحركةُ حزنَها قبل البكاء ، وأحالته إلى قبضاتٍ تدقّ الليل ، وظلّت مع دالية القرية المطوّقة بالنداءات ، رغم الحصار والدّهم والتنكيل . ولم تخلع عروق الجنّة والنار الأنيسة عن ثوب حكايتها ، وكان لِذِهَبِ أرْدانها رنينَ أجراس اليقظة والصلاة . هي سيفٌ من لحم ، وعاصفةٌ كامنةٌ في خطوات الصعود إلى الغيمة ، وهي توزّع البرق على الحقول . والحركة الأسيرة التطهّرية الموحّدة مَن رنّقت ترابَ الساحات بالكرز، هي قبسُ شرارةِ النار التي أوقدتها من صناديقها، والجمْر يحاصرها تجويعاً وقيوداً وعزلاً وإرهاباً وتهديداً وغازاً مُسيلاً للعار. والريح عطر قمصانها الكالحة المدبّغة بدم الصدامات . إذا صرخت تنهض الغابات من ورائها ، لتكون شاهدةً على الربيع والأعراس الآتية ، بمشيئةِ الأحرار رغم الجدران ، وبمسيرة العائدين إلى أرضهم الأولى، من المخيمات وقود الثورة وشاهد الإثبات على الحق غير القابل للتصرف. ولعل الحركة الأسيرة أول مَن تجاوز مقولات الانقسام المشبوه ، ومفردات البحث عن الذات ، وكل ما اجترحه المتوهّمون للخلاف والاختلاف . هي العائدة من المواجهة إلى القلعة .. وصولا إلى الخلاص وكسر الأبواب الثقيلة المدجّجة بالرصاص المجنون والكلاب. إن فلسطين البعيدة عن التشققات واللون الفصائلي وتنازع الرايات ، هي مفردات الحركة الأسيرة ، التي تلتصق مثل النار الريّانة بوجدانها، أو مثل نرجسة الشتاء في فؤادها. الحركة الأسيرة جبلنا الممتد من الكرمل إلى عيبال والعاصور إلى الخليل والنقب ورفح، وهي أسماء الفدائيين الذين ترسّمنا خطواتهم المضيئة حين جاءوا من مخيمات اللجوء، فبقيت تحفظ أصداءهم وأسماءهم وهي تستقبل جميعها القدس، كوفيّة على عنقها. واجهت ظُلما استرايجيا فادحاً ، فقدّمت الشهداء وأسابيع الجوع والعطش ملحاً لجراح الشمس ، وكسرتْ الظلمة الغاشمة والويل المحيط ، وظلّت تحت قنديل مظلّتها الوطنية ، التي رعت كل الاجتهادات وتنوّع الرؤى الفكرية والسياسية ، بأناقة وقدسية واتزان. وعمّا قريب سنرى نسور الأسرى يتوالدُون في الحقائب والعصور،نماذج شاركت ، بسنوات عمرها، في تحرير البلاد والعباد، لكنها تحتاج إلى رعاية متواصلة وإلى تمتين المعنى العميق للوحدة ، ولاجتراح كل الأشكال الممكنة لمساندة حملات إطلاق سراحهم ، والعمل على صون إنجازاتهم، لنرى الأسرى يدرجون على سلالم الزمن الحرّ الآتي، لأنهم قاتلوا على غير جبهةٍ ظالمة ، بدءاً من جبهة الاحتلال وصولاً إلى جبهة البقاء والممانعة والتصدى للاستلاب وتجريف الوعي والإذلال.
هي الطاهرة المعافاة الصادقة، التي لم تبلغها لعنةُ السياسة الغاوية، ولم تشملها الأشباح بعباءاتها السوداء الموّارة في هُوّ الغموض.
إنها الظاهرة غير العاديّة إلى حدّ الأسطورة المتجددة.. فالخيول ما فتئت ترعد في ضلوعها ، وتُخْرِج أفراسَها مبللّة بالضوء والمجد.
ولعل هذا اليوم، يوم الأسير، يهجس لخلق جبهة أكثر تماسكا لمساندة هؤلاء الأشاوس من رجال ونساء وأطفال ، إلى أن يبرق الرمّان ، يوم أعراس حريتهم، وليناموا على وسادة الرضا والاكتمال، ليحلموا بالزفاف واللقاء والبراءة. لم تتبدّل الحركة الأسيرة ، بقدر ما أكرهتها السياسة والمتغيرات على ممرّات إجبارية، أو قادتها إلى مسارب بحاجة إلى مراجعات مسؤولة، لكننا ما زلنا نستمد منها المعنويات ومفردات العمل الموحّد الجاد الخالص لله والوطن. هي التي تُمسِّد الجدائل المُتعبة، وهي المُستَنْفَدَة المهلوكة، وتبقى تُحيطهم بظلال الرجوع إلى الرحم الأول للأمل، حنيناً إلى الصورة الأولى التي ستتحقق عما قريب. لقد رموا السمَّ في بئرها ومياهها فأحالته إلى زمزمٍ وسلسبيل. وهي الواثقة التي برأتْ من الكراهية. ولم يعجز الاحتلال عن قتلها أو تفريغها فحسب.. بل أضاءتْ بدمها ودموعها المشهد من كل جوانبه، و"النصر حليف المتحضّرين".
وقد أتوقّف أمام ذكريات لطيفة ، قاسية، وسريعة معها ، وأُجلي أيامنا ضمن سيرتها الصعبة ، فأدرك أن لها صفحات بيضاء في كتاب عائلتها الفلسطينية الطيبة. ننحني للحركة الأسيرة لأنها أمّ الحريّة، ولأنها ابنةُ الشّرف، وملكة أشقائها الشرفاء، والقلعة التي لم يغزُها أحد. ولا أقول للأسرى إلا أنكم أكبر من الموت .. فما فتئ حضوركم الفذّ طاغياً ، ومواقفكم البطولية تتراءى أمامنا ، ونتعلّمها.. وأقول شكرا لأنكم كنتم وما زلتم بيننا ، وشكراً لهذه الأرض التي نقف عليها، أو نجلس معكَم على بساطها. وهنيئاً لكم المجد حتى الخلاص يا أسماء البلاد العائدة.
رحيل الذين لا يغيبون
بقلم الأسير: قتيبه مسلم – أبو حمدي
بسم الله الرحمن الرحيم
قال تعالى " إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَىٰ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ"
لقد ربحت البيع يا هازم الزنزانة والموت.. صعدت روحك يا قمر الشهداء تحمل وصايا أخيك الشهيد القائد محمود الطيطي. وكل الشهداء العظماء، تصعد ساجداً يا روح فلسطين، يا سعود الطيطي – أبو محمود.. لتخجل من دمائك كل الأشجار والحجارة والرؤوس الحية، ومعك فرسان المقاومة تهزمون الخوف والتردد.. يعانقك الحر الشهيد محمد أبو دراع وتقسمان معاً قسم الشهادة وقسم الحرية.
لقد هزمتنا جميعاً بهذا الرحيل العزيز والكبير والمعمد بالدم يا أبا محمود.. هزمت ليل السجن الذي أخذ من عمرك عشرون عاماً، لكنك بقيت فيه ضد التيار لا تخون دماء أخيك، تكتب الأشعار وتغني لفلسطين الوطن والحرية والأقصى، وتبحر بكل شموخ وجرأة بين الصحراء والأمراض التي نخرت جسدك. عشرون عاماً في القيد، وعيونك تنظر إلى الشمس وترفض الظلام، تنشد نداء البندقية ونداء الحرية ونداء التحرير لأنك آمنت أن لا حل مع هذا الجنون الصهيوني سوى أجساد طاهرة تتفجر لترسم خارطة الخلاص والحرية والاستقلال.
سلامٌ لروحك أيها الشهيد القائد مع سبق الإصرار والرجولة يا فارس البندقية، وسيد التضحية، سلامٌ تحمله قطرات دمك ودم الشهيد أبو دراع والشهيد محمد سعيد (الحلاق) وكل قناديل الطهارة. إلى كل الرافضين للظلم وعشاق الشهادة.. من أناروا درب الحرية بدمهم فكانوا شمس الكبرياء والشجاعة والثورة الساجدين العابدين الراكعين المجاهدين الفاتحين الثائرين. وما أروع هذا الرحيل يا أبا محمود وأنت تشتبك بعد كل سنوات القيد والجوع والحرمان والمنفى.. تشتبك لتكون فلسطين حرة محررة تسرع الخطى لتلتقي أخيك القائد محمود في أرقى درجات الشهادة وتكتب بالدم والرصاص بأننا شعب فلسطين الذي لن يساوم على الأرض والأقصى والمقدسات والأحداث الوطنية.. تبكيك كل ساحات السجون وساحات الوطن يا سيف الحرية وعاشق الشهادة وتعانقك أشجار الوطن خاشعة راكعة لهذا الدم القاني الحر الذي يروي شرايين الحرية والاستقلال شرايين فلسطين الواحدة الموحدة.. ورحمة الله عليك يوم ولدت ويوم قهرت سجنك ويوم خرجت حراً ويوم هاجرت واشتريت الآخرة.. ورحمة الله عليك يوم كتبت بالرصاص بأننا سنقاوم ونقاوم ونقاوم ومجرمٌ من لا يقاوم.
بعد غياب 21 عاماً في سجون الاحتلال، مروان البرغوثي الأكثر حضوراً وتألقاً
بقلم : تيسير نصر الله
عندما تعود بي الذاكرة إلى الوراء قرابة الأربعين عاماً، أتذكر ذلك الشاب المفعم بالحيوية مروان البرغوثي، حيث لم يمض على خروجه من سجون الإحتلال الإسرائيلي بضعة أيام، ومباشرة وكباقي الأسرى المحررين يلتحق بجامعة بير زيت، ومن هنا بدأت حكايتي مع مروان. كنت آنذاك طالباً في جامعة النجاح الوطنية بنابلس، وكنت كالكثير من الطلبة دائم التردد على السجون وزنازينها المشبعة بالرطوبة، لأنّ الجامعات كانت حاضنة للعمل الوطني ضد الإحتلال بامتياز، فليس غريباً أن يتعارف الطلبة، وخاصة النشطاء منهم، على بعضهم البعض، ففي أول زيارة لجامعة بير زيت تعرّفت على الأخ مروان، وسمير صبيحات، ونايف سويطات، كان هذا الثلاثي يقترن ببعضه البعض، مع وجود عدد كبير من أبناء الشبيبة يقودون الجامعة، إلاّ أنّ هؤلاء الثلاثة كانوا الأكثر بروزاً بين زملائهم. في ذلك الوقت، كان ثمن الإنتماء للحركة والنضال في صفوفها مُكلفاً، ولم يكن مجرد نزهة، فإما الإعتقال أو الإستشهاد، أو المطاردة ومن ثم الطرد من فلسطين، وكان مروان البرغوثي يدفع هذه الأثمان من عمره ولحمه ودمه، فإعتُقل وطورد وأُبعد.
ولعلّ أهم ما ميّز مروان عنا جميعاً هو ديناميكيته الفائقة، وقدرته على التأقلم في أي واقع يعيشه وكأنه وُلٍدَ فيه، ويستطيع أن يُضفي على المكان رونقاً خاصاً وبهجة، فيأسرك بمحبته مباشرة، وكأنك تعرفه منذ عشرات السنين، فكان خطيباً مفوهاً، يُلهب مشاعر الطلبة والناس أجمعين، وكان لا يهدأ أبداً أثناء قيادته للطلبة في الجامعة، أو أثناء إبعاده إلى خارج فلسطين، حيث استقبلني في الأردن بعد إبعادي وتوطدت علاقتي به كثيراً، فلا يكاد يمر يوم واحد دون أن نلتقي إما في بيته الدافئ، أو في دوائر منظمة التحرير الفلسطينية في الأردن، كان مروان شعلة عطاء لا تنطفئ، يعمل في كل الاتجاهات، يقابل القادمين من الأرض المحتلة ويوفّر لهم كل ما يحتاجونه، يستمع إليهم، وينقل همومهم للقيادة حيث كان عضواً في المجلس الثوري لحركة فتح، وكان الأكثر وفاءً لزملاء التجربة والنضال، لا ينسى أحداً منهم، دائم التفاؤل، والإبتسامة لا تفارقه، ولكنه كان جاداً في عمله ولقاءاته الكثيرة والمثيرة والتي لا يقدر عليها سواه.
وعندما عدنا إلى فلسطين، حيث سبقني قرابة السنتين بالعودة، وجدت إسمه ساطعاً في سماء الوطن، أميناً لسر اللجنة الحركية العليا لحركة فتح، يزور أقاليم الحركة ويتفقد المواقع ويطمئن على سير العمل بهمّة القائد الفذّ. ورغم إيمانه المطلق بالسلام إلاّ أنّ تنكُر الاحتلال للاتفاقيات الموقّعة معه، وعدم تطبيقه لها، جعل مروان يقود انتفاضة الأقصى بكل اقتدار، لقد فاجأ الجميع بقوته وقدراته وقدرته على قيادة الانتفاضة، فأصبح قائدها العام بلا منافس. مما جعله هدفاً لقوات الاحتلال، فمحاولات الاغتيال فشلت فكان الإعتقال مجدداً ليبني هناك في عتمة السجون أكاديمية لتخريج أفواج من الأسرى الحاصلين على شهادة البكالوريوس والماجستير والدكتوراه.
لم يغب مروان البرغوثي عن المشهد السياسي الفلسطيني لحظة واحدة، رغم مرور واحد وعشرين عاماً على اعتقاله، فهو الأكثر حضوراً في المشهد، هو الحاضر الغائب، يحتل المرتبة الأولى في قلوب أبناء الشعب الفلسطيني، ولا أعتقد أن أحداً ينافسه في ذلك.
كم نحن بحاجة إليك بيننا أيها الأخ الحبيب، والصديق الوفيّ، والقائد الملهم، لنقيّم التجربة وننطلق من جديد.
زوجات الأسرى
بقلم الأسير : مراد أبو الرب
عندما نكتب عن معاناة الأسرى في السجون الإسرائيلية نطلق العنان لِأقلامنا و أفكارنا , و كذلك نكتب عن أمهات الأسرى و شقيقاتهم , واصفين المعاناة و هنّ يسافرن و يتنقلنّ بين السجون و أثناء الزيارة , و لكن قليلاً ما نكتب عن معاناة زوجات الأسرى ! اللواتي تركن ملذات الحياة و ربطن مصيرهن بمصير أزواجهن ، و بالذات ذوي الأحكام العالية و المؤبدات ، و غالبيتهن يكوننّ في ذاك الوقت اي بوقت الاعتقال في ريعان شبابهن و أعمارهن ، في العشرينات أو الثلاثينات من العمر لأقصى حد ، و جميعنا نعلم احلام الفتاة في تلك الفترة ، المسكن في بيت و زوج ، يتعاونان في الحياة و تربية الأولاد. وهنا في السجون قابلت الكثير من الأسرى المتزوجين و قد مضى على اعتقالهم أكثر من عشرين عام ... نعم !! .. لا تستغربوا عشرين عاماً !!! , مع أنه بإمكانها لحظة الاعتقال أن تعيش حياتها و تطلب الطلاق و تتزوج ، لكنها آثرت على نفسها و قررت أن تكون بجانب زوجها في تلك الصعاب ، و رفضن حتى مجرد النقاش في هذا الموضوع مع أنه للعلم ليس بالعيب أو الحرام . فمن حقها العيش كما تريد ، و لا تقف معاناة الزوجة عند التنقل بين السجون من أجل زيارة زوجها لمدة خمس و أربعين دقيقة كل شهر و طبعا يكون اللقاء من خلف الزجاج ، فلا ملامسة ولا ملاطفة ولا حتى قبلة ، و المعاناة الأكبر في البيت تربية الأولاد ، فالزوجة هنا تلعب دور الأب و الأم معاً ... تخيلوا !! مصاعب الحياة ، تواجهها امرأة ترعى الأسرة بكل تفاصيلها ، فإطعام الأولاد، و تعليمهم و مراقبتهم وهم يكبرون ، و شراء ملابس العيد لهم ، و حضور حفلات التخرج . وكيف ستشرح للأطفال عدم وجود والدهم كبقية الأولاد و تخبرهم عن سبب وجود أبيهم في السجن ، لان السجن عند الأطفال للمذنبين و المجرمين ، وبذلك عليها أن تشرح لهم يعني اي عليها أن تشرح القضية الفلسطينية من ألفها إلى يائها .
و بذلك تلعب دور جديد وهو دور المعلمة ، و اذا مرض أحد ابنائها ستخرج في غسق الليل باحثة عن طبيب و دواء لأطفالها ، ومن ثم يكبرون شيئاً فشيئاً ، و تكبر همومهم و مشاكلهم و تكوين الصداقات و الاصدقاء و تسجيلهم في المدرسة وكل ذلك يكون على عاتقها ؛ اي حل تلك الإشكاليات , و من ثم بعدها الجامعة حيث متابعة المصاريف و الدراسة , و بما أنهم أبناء مناضل يجب أن يكونوا قدوة و مثلاً للحفاظ على ذلك الإرث الذي قدمه والدهم . ولا ننسى هنا أنه على الزوجة أيضا أن تكون على علاقة قوية مع ام الأسير و شقيقاته فلا تريد أن تغضب أهل زوجها خوفاً على مشاعره و كذلك فضولية الناس , فَزوجة الأسير عين تحت المجهر على الدوام ، فكلما قامت بعمل قالوا : زوجة أسير !! و تعمل كذا و كذا !!! . فزوجة الأسير استطاعت التغلب على كل المصاعب و أنتجت اولاداً يفخر بهم والدهم ، فغالبيتهم تخرجوا من الجامعات ومنهم من توظف في أحد الوظائف وهي تقدم وقتها ما بين أولادها و زوجها . وهناك من يعانين أكثر وهنا الممنوعات من الزيارة ، فقد تمر سنوات على الزوجة دون زيارة زوجها لمدة خمس أو عشر سنوات ، فكل هذه الفترات من الغياب يجب أن تشرحها إذا تمكنت من الزيارة خلال خمس و أربعين دقيقة !!! . زوجة الأسير لا أبالغ إن قلت انها تعاني أكثر من الأسير نفسه ، ولا ننسى هنا معاناة الزوجة وهي تتابع أمور زوجها في السجن ، لكي لا ينقص عليه شيء من كنتينا و دخان وملابس !! و المفارقة هنا .. أن العادة تكون بشراء الزوج ملابس هدية لزوجته ولكن الزوجة هنا هي التي تشتري ملابس لزوجها ، ويمكن أن نقول أنه طفل آخر من أطفالها . إن زوجة الأسير هي امرأة خارقة !! بكل ما تعني الكلمة من معنى ، فلم أسمع عبر التاريخ عن وجود امرأة استطاعت أن تتحمل كل هذه الصعاب ، و بالتالي نجاح مبهر !! ولو أردنا القياس كم من النساء اللواتي يعشنّ مع أزواجهن انفصلوا بسبب مشاق و متاعب الحياة !!! .... و المشكلة التي لا يلتفت إليها أحد أن معاناة الزوجة تستمر حتى بعد تحرر زوجها من الأسر ... نعم بعد التحرر !!! لأن الغياب الطويل لسنوات و عدم التواصل و الاطلاع على مجريات الحياة و تطورها يؤدي إلى صعوبة في التعامل مع الأسير .. فمن كان عمره عشرون عاماً أصبح أربعون ، ومن كان عمره ثلاثون أصبح خمسون !!
و بالتالي فإن المرأة تكبر هي أيضاً و التفاهم الذي كان في السابق بين الزوجين و بالذات أنهما اصلا لم يعيشا سويا سوى تلك المدة الطويلة من سنة إلى خمس سنوات على أقصى حد ، يتخللها المطاردة و ربما خلال فترة المطاردة لم يشاهدا بعضهما الا مرات معدودة بمعنى آخر كأنهما تزوجا بالسر ، و اذا لم يكونا حكيمين في التعاون و التعامل فإن الحياة الزوجية لن تدوم و بالذات اذا كان الأسير الأب غير متفهم لتلك المرحلة فحتى الاولاد سيكون هناك عائق بينه و بينهم و سيكونون أقرب للأم لكونها هي التي ربت و علمت حيث أن الاولاد كبروا و لم يشاهدوا والدهم إلا من خلال الزيارة . هذه الزوجة التي تحملت كل ذلك وما زالت و حافظت على العهد الذي بينهما اي بينها وبين زوجها الأسير تستحق أن تنال وسام الوفاء و العطاء و المحبة ... وسام الصبر و الإرادة ... وسام القوة ... ووسام الحرية .. وسام الوطن !!! .. كل الأوسمة و النياشيد تستحقها، زوجة الأسير بجدارة و هذا اقل شيء يقدم لها بعد رحلة العطاء الطويلة !!