406
0
إعلان نيويورك وتكريس الاحتلال

بقلم: أحمد بشير العيلة
"صمت دهراً ونطق كفراً"، لعل هذا المثل خير تمثيل للحراك السياسي لأنظمة صمتت بل ودعمت الكيان الصهيوني في حرب الإبادة ضد الشعب الفلسطيني في غزة، وأوعز لها بالتحرك بعد فقد الفلسطينيين لأكثر من 60 ألف قتلاً، وأكثر من 142 ألف جرحى، وتدمير شامل لكل قطاع غزة من منازل وبُنى تحتية وموارد، وصولاً إلى الموت جوعاً وتصفية المجوعين طالبي الإغاثة.
لقد بدأ الحراك العربي الفرنسي متأخراً للغاية بل في غير محله، وهو بلغة أكثر دقة؛ حراك سياسي منقذ للصهاينة في ورطتهم في غزة، أكثر من محاولة إيقاف الحرب، ويعد البيان الختامي الصادر عن المؤتمر الدولي بشأن التسوية السلمية لقضية فلسطين وتنفيذ حل الدولتين الذي استضافته نيويورك برئاسة مشتركة بين السعودية وفرنسا، من أسوأ البيانات السياسية غير المتكافئة، فقد خدم في كثير من نقاطه ما يريده الصهاينة وأمريكا من خروج بمكاسب سياسية من الحرب، ولم يكن "إعلان نيويورك" سوى تسوية لقضية فلسطين، بل تصفية لها، وإعطاء شرعية الوجود للكيانٍ المغتصب، فشعارات إنهاء الحرب في قطاع غزة، وتحقيق تسوية عادلة وسلمية ودائمة للصراع الفلسطيني- الصهيوني، استناداً إلى تنفيذ حل الدولتين هو تلاعب سياسي متآمر يلعب بالحقائق التي ترسخ الوجود الصهيوني في فلسطين، وتكرّس الواقع الدموي.
إن هذا الإعلان السياسي - رغم بعض الجوانب الإيجابية مثل التأكيد على حل الدولتين ورفض الاستيطان والضم - يعاني من ثغرات خطيرة جسيمة تُكرّس الظلم التاريخي بحق الشعب الفلسطيني وتتنكر لحقوقه الأساسية.
ومن واجبنا أن نضع (إعلان نيويورك) على المشرحة، ونبدأ في تقييمٍ مفصّل للنقاط الإشكالية، بعد قراءته بتمعن، ونضع كل ذلك في نقاط محددة تسهيلاً وتوضيحاً:
أولاً: التناقض في إدانة العنف:
لقد لبس إعلان نيويورك قناعاً مخادعاً لإدانة زائفة، حيث ساوى بين مقاومة مشروعة إنسانياً وقانونياً لشعب تحت الاحتلال، وعنف دولة احتلال تمارس الإبادة الجماعية والتطهير العرقي في جريمة واضحة ضد الإنسانية، وهذا تشويه للقانون الدولي، حيث أن المادة (51) من ميثاق الأمم المتحدة تكفل حق الدفاع عن النفس ضد الاحتلال. وقد وردت المقاومة المشروعة كذلك في قرارات الأمم المتحدة 37/43 وA/RES/33/24 مؤكدة شرعية الكفاح المسلح ضد الاحتلال.
كما تجاهل إعلان نيويورك جذور العنف، حيث لم يذكر أن الاحتلال هو السبب الرئيسي للعنف، بينما تمت إدانة المقاومة، التي تمثل رد الفعل المشروع، دون ذكر الفعل الذي يتمثل في 75 عاماً من التهجير والتطهير والقمع. وأنكر البيان إنكاراً صريحاً حق الفلسطينيين في الدفاع عن أراضيهم المسلوبة.
ثانياً: سلاح المقاومة:
في مفارقة منطقية عجيبة، ركز البيان على "نزع سلاح المقاومة" (البند 11) بينما لم ينبس ببنت شفة، ولم يجرؤ على أن يفرض على إسرائيل نزع سلاحها النووي أو تقليص جيش الاحتلال المتورط في جرائم ضد الإنسانية. مع العلم أنه حتى لو سلم السلاح للسلطة سيكون سلاحاً شرطياً وظيفياً يخدم أجندات الاحتلال ويكرسها.
ثالثاً: الثغرات الأمنية:
في (البند 15) وكعادة المتخاذلين من الأنظمة العربية، تم تفويض بعثة دولية قد تُستخدم لقمع المقاومة تحت ذريعة الحماية، خاصة مع مشاركة قوات من دول تدعم إسرائيل (مثل كندا والنرويج)، ولنا في فلسطين تجارب عدة في البعثات الدولية المشبوهة التي تخدم أجندات العدو ولا تساهم في الاستقرار.
كما أن البيان اجتهد في ضمانات أمنية لإسرائيل وردت في (البند 16) في تكريس واضح لعدم التماثل، حيث لا ضمانات أمنية للدولة النووية الصهيونية، مقابل فرض قيود على أمن الفلسطينيين.
رابعاً: التجاهل القانوني الخطير:
تم اختزل إعلان نيويورك المشبوه في البند (البند 39) موضوع حق العودة في فكرة قزمية هي (الحل التوافقي)، مع العلم أن حق العودة منصوصٌ عليه في قرار الأمم المتحدة رقم 194. ولا من ذكر في الإعلان للقانون الدولي الذي يعتبر اللاجئين الفلسطينيين أصحاب حق فردي غير قابل للتصرف.
ورغم الإدانة الواردة في (البند 23)، فلا توجد آلية لفرض عقوبات على الكيان الصهيوني، مثل تجميد اتفاقيات التبادل الحر مع الاتحاد الأوروبي، كمن يلوم ولده رفعاً للعتب أمام الآخرين.
خامساً: إشكالية الشرعية:
دعم (البند 22) إجراء انتخابات تحت رعاية سلطة انتهت ولايتها الدستورية منذ 2009، بينما يُستبعد فصائل المقاومة رغم تمثيلها شريحة واسعة من الفلسطينيين. ما يعد تمثيلاً فلسطينياً غير ديمقراطي.
والأدهى والأمر والأسوأ هو وصف الدولة الفلسطينية في (البند 20) بأنها "غير مسلحة" ما يُكرّس تبعيتها الأمنية للقوى الخارجية، في تنازل مقيت لا يرضاه الفلسطينيون عن السيادة.
سادساً: التسوية الاقتصادية محل الحقوق:
ورد تركيزٌ على الإعمار في (البند 12) دون ضمانات لإنهاء الحصار أو منع تدمير ما يشيد مجدداً، أي يظل إعماراً قابلاً للتدمير في كل مرة على رؤوس الفلسطينيين، في تسوية تحمل مناورة مبطنة للتنازل عن الحقوق مصحوبة بشهية مفتوحة للتلاعب بمئات المليارات من قِبل مقاولي القضية من جميع الدول والشركاء الإقليميين والدوليين الذين سيشاركون في مؤتمر تعافي وإعمار غزة الذي سيعقد قريباً في القاهرة.
أما (البند 27) الذي يَدَّعي تعزيز التنمية الاقتصادية الفلسطينية، وتيسير التجارة، وتعزيز تنافسية القطاع الخاص الفلسطيني. وفقاً لبروتوكول باريس بشأن العلاقات الاقتصادية لعام 1994، فإنه لايزال، بل ويؤكد على حبس الاقتصاد الفلسطيني في تبعية واضحة لإسرائيل عبر علاقات اقتصادية خاصة، بل ومشبوهة.
سابعاً: تقييم بنود "حماية حل الدولتين" و"الاندماج الإقليمي":
اجتهد البيان في إعادة إنتاج الأزمات بدلاً من حلها، فهنالك تناقض واضح بين الخطاب القانوني والواقع العملي (البند 28-30)، حيث سيبقى "احترام القانون الدولي" (البند 28) و"مواجهة الاستيطان" (البند 30) حبراً على ورق لعدم النص على آلية واضحة للتنفيذ، وسيبقى مجرد شعارات، ما دامت إسرائيل تُكافَأ بدعم سياسي وعسكري رغم انتهاكاتها. فلماذا لم تتخذ أي دولة مشاركة في اجتماع نيويورك، أو أي دولة غربية أخرى، عقوبات فعلية ضد المستوطنات رغم اعترافها بغير شرعيتها.
وفي البند 30 ذاته؛ تم وضع أفعال المستوطنين المحمية بالجيش الإسرائيلي على قدم المساواة مع أي رد فلسطيني، متناسياً أن أحدهما طرف محتل والآخر ضحية احتلال، ما يشكل معادلة زائفة لوصف الحالة.
ثامناً: القدس والوصاية الهاشمية:
تجاهل نص (البند 31) أن إسرائيل غيرت الواقع على الأرض بضم القدس بشكل أحادي (غير معترف به دولياً)، ويُخفي حقيقة أن "الوصاية الهاشمية" – رغم شرعيتها الدينية – لا تملك سلطة سياسية أو عسكرية لوقف التهويد المتسارع للمدينة، ما يُبقي القدس رهينة التفاوض، بل وإنه للمفارقة فإن الأوقاف الأردنية تُدار تحت سيطرة الاحتلال الإسرائيلي الذي يتحكم بالوصول إلى المسجد الأقصى ويسمح بتهديده بزيارات المستوطنين. وإبقاء القدس تحت هذا الوضع يعمل على إفراغ القضية من مضمونها، فالقدس بوصلة النضال الفلسطيني.
تاسعاً: التدابير الانتقائية
تمثل العقوبات ضد المستوطنين في (البند 32-33) مجرد تدابير انتقائية، فلو كانت جادة لأعُلن صراحة عن مواجهة (مشروع الاستيطان) غير الشرعي برمته، ولفُرضت عقوبات على حكومة الاحتلال الداعمة له، وليس على مجرد أفراد مستوطنين معزولين. فالعقوبات الفردية تُستخدم كغطاء لاستمرار الدعم الاستراتيجي لإسرائيل.
وبالمقابل المخزي نجد في (البند 33) إسقاطاً لحق المقاومة تحت ذريعة الإرهاب، حيث يفتح هذا البند الباب لتصنيف أي مقاومة مسلحة ضد قوات الاحتلال في الضفة كإرهاب، بينما يُغفل عنف الكيان الصهيوني المنظم.
عاشراً: الاندماج الإقليمي:
تورط (البند 34-39) في التهديد المُبطّن الذي ربط إنهاء الاحتلال برفض العنف والإرهاب، – أي أن الفلسطينيين مُطالبون بنزع سلاح المقاومة أولاً كشرط لإنهاء الاحتلال، بينما لا يُشترط على الكيان نزع سلاحه النووي أو تفكيك المستوطنات. ناهيك عن أن كلمة (التعايش السلمي) الخادعة بين دول المنطقة، لا يذكر البتة شروطاً على المحتل، مثل الاعتراف بحق العودة أو تعويض لاجئي 1948.
أما ما ورد في (البند 39) عن "ضمانات أمنية للجميع" يُخفي أن الكيان الصهيوني يسعى لشرعنة هيمنته عبر تحالفات مع أنظمة عربية تحت غطاء "الأمن الإقليمي"، وسنشهد تحالفات تتجاوز البعد الديني (الإبراهيمي) إلى تحالفات عسكرية مع الكيان الصهيوني، شاهدنا بوادر لها في الحروب الأخيرة على قطاع غزة. وكل هذا يشكل بنية أمنية إقليمية لصالح إسرائيل.
حادي عشر: آلية المتابعة:
عمل (البند 40-42) على افتعال إدارة الأزمة بدلاً من حلها من خلال ما أسماه البيان (التحالف العالمي لحل الدولتين) وهو بطبعه تحالف وهمي، فالتاريخ يُثبت أن مثل هذه الآليات (مثال اللجنة الرباعية) فشلت بسبب انحياز أعضائها الغربيين للكيان الصهيوني. كما أن تحديد موعد للمتابعة في أيلول/ سبتمبر 2025، لا يعني شيئاً طالما لا توجد عقوبات على من يُعطّل التنفيذ من الصهاينة ومن والاهم.
بعد هذا التشريح للبيان الختامي الصادر عن المؤتمر الدولي بشأن التسوية السلمية لقضية فلسطين وتنفيذ حل الدولتين (إعلان نيويورك) نخلص أنه مجرد وثيقة تكرّس الهيمنة الإسرائيلية، لاتضع حلولاً منصفة، وذلك من خلال ثلاثة رسائل خطيرة:
1. تسويق ما يُسمى بالحل السلمي كبديل عن الحقوق عبر التركيز على "التسوية" و"الاندماج" يُحوّل القضية من تحرير إلى إدارة أزمة تحت الهيمنة الإسرائيلية.
2. فرض تطبيع مُسبق مع الاحتلال من خلال الربط بين "الاستقرار الإقليمي" و"إنهاء النزاع"، وهو ما يعني ضغطاً على الفلسطينيين لقبول شروط إسرائيل مقابل وعود اقتصادية.
3. محاولة تجيير القانون الدولي بالاستشهاد بالمحكمة الدولية وقرارات الأمم المتحدة كأداة دعائية، بينما تُرفض آلية تنفيذها .
والسؤال عن البديل لكسر هذه الحلقة المفرغة، يكمن في مقاضاة إسرائيل أمام المحكمة الجنائية الدولية كدولة احتلال تمارس التطهير العرقي، وكذلك فرض عقوبات فعلية بوقف التوريد العسكري لإسرائيل، تجميد اتفاقيات التبادل الحر مع المستوطنات، والأهم قانونياً وتاريخياً هو العمل على إعادة تعريف المقاومة بدعم حملات المقاطعة كأداة ضغط سلمية، والاعتراف بحق الفلسطينيين في الدفاع عن أنفسهم بموجب القانون الدولي.
ولا يفوتنا أن نؤكد أن هذا الإعلان يكرّس للأسف الوضع القائم، حيث يُقدم حلولاً شكلية (كالدولة الفلسطينية الورقية) دون معالجة جوهر الصراع في إنهاء نظام الأبارتهايد الصهيوني، حيث أن خطورة (إعلان نيويورك) تكمن في أنه يشرعن التدويل الأمني كبديل لإنهاء الاحتلال، ويُحوّل القضية من حقوق إلى (إدارة أزمة) عبر مشاريع إغاثية، كما يُعزز شرعية كيانات ليست ذات سيادة (مثل السلطة الفلسطينية) على حساب الشرعية الثورية.
ونقول أخيراً يجب رفض أي حل لا يعترف بحقوق الشعب الفلسطيني غير القابلة للتصرف كحق العودة، وتقرير المصير، ومقاومة الاحتلال، كما يجب الضغط بآليات دولية ملزمة مثل مقاضاة الكيان الصهيوني أمام محكمة الجنايات الدولية لجرائم الحرب، وفرض عقوبات فعلية، عليه، احتراماً لمبادئ الحق والعدالة لدولة فلسطينية ذات سيادة، وليس لدويلة قزمية منزوعة السلاح والإرادة والشرف.